المبحث الأول - تعريف الاعتكاف ومشروعيته ومكانه وزمانه:
1- تعريفه: الاعتكاف لغة: اللبث وملازمة الشيء أو الدوام عليه خيراً كان أو شراً.
ومنه قوله تعالى: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138] وقوله: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] وقوله سبحانه: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187].
وشرعاً له تعاريف متقاربة في المذاهب.
قال الحنفية: هو اللبث في المسجد الذي تقام فيه الجماعة، مع الصوم، ونية الاعتكاف.
وقال المالكية: هو لزوم مسلم مميز مسجداً مباحاً لكل الناس، بصوم، كافَّاً عن الجماع ومقدماته، يوماً وليلة فأكثر، للعبادة، بنية.
وقال الشافعية: هو اللبث في المسجد من شخص مخصوص بنية.
وقال الحنابلة: هو لزوم المسجد لطاعة الله، على صفة مخصوصة، من مسلم عاقل ولو مميزاً طاهر مما يوجب غسلاً، وأقله ساعة.
2- وأدلة مشروعيته: الكتاب والسنة والإجماع، فالكتاب: لقوله تعالى:
{وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} فالإضافة في الآية إلى المساجد المختصة بالقربات، وترك الوطء المباح لأجله، دليل على أنه قربة.
والسنة: لما روى ابن عمر وأنس وعائشة أن "النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، منذ قدم المدينة إلى أن توفاه الله تعالى" متفق عليه.
وأجمع العلماء على مشروعيته.
3- وقت الاعتكاف: أنه مستحب كل وقت في رمضان وغيره.
ذهب الحنفية إلى أنَّ أقلَّ اعتكاف والنفل: مدة يسيرة غير محدودة، وإنما بمجرد المكث مع النية، ولو نواه ماشياً على المفتى به، لأنه متبرع، وليس الصوم في النفل من شرطه، ويعد كل جزء من اللبث عبادة مع النية بلا انضمام إلى آخر. ولا يلزم قضاء نفل شرع فيه، لأنه لا يشترط له الصوم.
وذهب المالكية إلى أن أقلَّ الاعتكاف يوم وليلة، والاختيار: ألا ينقص من عشرة أيام، بمطلق صوم من رمضان أو غيره، فلا يصح من مفطر، ولو لعذر، فمن لا يستطيع الصوم لا يصح اعتكافه.
وذهب الشافعية في الأصح عندهم: إلى أنه يشترط في الاعتكاف لبث قدر يسمى عكوفاً أي إقامة، بحيث يكون زمنها فوق زمن الطمأنينة في الركوع ونحوه، فلا يكفي قدرها، ولا يجب السكون، بل يكفي التردد فيه.
وذهب الحنابلة إلى أنَّ أقله: ساعة أي ما يسمى به معتكفاً لابثاً، ولو لحظة. فالجمهور على الاكتفاء بمدة يسيرة، والمالكية يشترطون لأقله يوماً وليلة.
4- محل الاعتكاف: عند الحنفية للرجل أو المميز في مسجد الجماعة: وهو ماله إمام ومؤذن، سواء أديت فيه الصلوات الخمس أو لا، وأما الجامع فيصح فيه مطلقاً اتفاقاً. بدليل قول ابن مسعود: "لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة"، وللمرأة في مسجد بيتها: وهو المعد لصلاتها، الذي يندب لها ولكل أحد اتخاذه.
وذهب الحنابلة: إلى أنه لا يجوز الاعتكاف من رجل تلزمه الصلاة جماعة إلا في مسجد تقام فيه الجماعة، فلا يصح بغير مسجد بلا خلاف، لقوله تعالى:
{وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} فلو صح في غيرها لم تختص بتحريم المباشرة، إذ هي محرمة في الاعتكاف مطلقاً.
ويصح الاعتكاف في كل مسجد في الحالات التالية :
1- إن كان الاعتكاف مدة غير وقت الصلاة كليلة، أو بعض يوم، لعدم المانع، وإن كانت الجماعة تقام في مسجد في بعض الزمان، جاز الاعتكاف فيه في ذلك الزمان دون غيره.
2- إن كان المعتكف ممن لا تلزمه الجماعة كالمريض والمعذور والمرأة والصبي ومن هو في قرية لا يصلي فيها سواه، فله أن يعتكف في كل مسجد، لأن الجماعة غير واجبة عليه. ولا يصح للمرأة الاعتكاف في مسجد بيتها، لأنه ليس بمسجد حقيقة ولا حكماً، ولو جاز لفعلته أمهات المؤمنين، ولو مرة، تبييناً للجواز.
وإذا اعتكفت المرأة في المسجد، استحب لها أن تستتر بشيء، لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما أردن الاعتكاف أمرن بأبنيتهن، فضربن في المسجد، ولأن المسجد يحضره الرجال، وخير لهم وللنساء ألا يرونهن ولا يرينهم.
ولا يصح الاعتكاف ممن تلزمه الجماعة في مسجد تقام فيه الجمعة دون الجماعة إذا كان يأتي عليه وقت صلاة، حتى لا يترك الجماعة.
ويلاحظ أن سطح المسجد ورحبته المحوطة به وعليها باب، ومنارته التي تكون فيه أو التي بابها فيه من المسجد، بدليل منع الجنب من الدخول فيما ذكر.
وكذا كل ما زيد في المسجد حتى في الثواب يعد من المسجد، ولو المسجد الحرام ومسجد المدينة.
ولو اعتكف من لا تلزمه الجمعة كالمسافر والمرأة في مسجد لا تصلى فيه الجمعة، بطل اعتكافه بخروجه إليها إن لم يشترط الخروج إليها، لأنه خروج لازم لابد له منه.
والأفضل الاعتكاف في المسجد الجامع إذا كانت الجمعة تتخلله، لئلا يحتاج إلى الخروج إليها، فيترك الاعتكاف، مع إمكان التحرز منه.
ومن نذر الاعتكاف أو الصلاة في مسجد غير المساجد الثلاثة، فله فعل المنذور من اعتكاف أو صلاة في غيره، لأن الله تعالى لم يعين لعبادته موضعاً، فلم يتعين بالنذر، ولو تعين لاحتاج إلى شد رحل.
وإن نذر الاعتكاف أو الصلاة في أحد المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى، لم يجزئه في غيرها، لفضل العبادة فيها على غيرها، فتتعين بالتعيين. وله شد الرحال إلى المسجد الذي عينه من الثلاثة، لحديث أبي هريرة: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا".
وأفضلها المسجد الحرام، ثم مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم المسجد الأقصى، فإن عين الأفضل منها وهو المسجد الحرام في نذره، لم يجزئه الاعتكاف ولا الصلاة فيما دونه، لعدم مساواته له.
وذهب المالكية: إلى أن مكان الاعتكاف هو المساجد كلها، ولا يصح في مسجد البيوت المحجورة، ومن نوى الاعتكاف مدة يتعين عليه إتيان الجمعة في أثنائها، تعين الجامع، لأنه إن خرج إلى الجمعة، بطل اعتكافه. ويلزم الوفاء بالنذر في المكان الذي عينه الناذر، فإذا عين مسجد مكة أو المدينة في نذر الصلاة أو الاعتكاف، وجب عليه الوفاء فيهما. والمدينة عند المالكية أفضل من مكة، ومسجدها أفضل من المسجد الحرام، ويليهما المسجد الأقصى.
وذهب الشافعية: إلى أنَّه إنما يصح الاعتكاف في المسجد، سواء في سطحه أو غيره التابع له، والجامع أولى بالاعتكاف فيه من غيره، للخروج من خلاف من أوجبه، ولكثرة الجماعة فيه، وللاستغناء عن الخروج للجمعة. ويجب الجامع للاعتكاف فيه إن نذر مدة متتابعة فيها يوم الجمعة، وكان ممن تلزمه الجمعة، ولم يشترط الخروج لها.
ولا يصح اعتكاف امرأة في مسجد بيتها: وهو المعتزل المهيأ للصلاة، لأنه ليس بمسجد.
وإن نذر أن يعتكف في مسجد غير المساجد الثلاثة بعينه، جاز أن يعتكف في غيره، لأنه لا مزية لبعضها على بعض، فلم يتعين.
وإن نذر أن يعتكف في أحد المساجد الثلاثة (المسجد الحرام ومسجد المدينة والأقصى) تعين، ولزمه أن يعتكف فيه، لما روى عمر رضي الله عنه، قال: "قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك" متفق عليه ويقوم المسجد الحرام مقامهما لمزيد فضله عليهما وتعلق النسك به، ولا عكس، فلا يقومان مقام المسجد الحرام، لأنهما دونه في الفضل، ويقوم مسجد المدينة مقام الأقصى، لأنه أفضل منه، ولا عكس، لأنه دونه في الفضل.
والخلاصة: أن المالكية والشافعية يجيزون الاعتكاف في أي مسجد، والحنفية والحنابلة يشترطون كونه في المسجد الجامع، ولا يجوز عند الجمهور الاعتكاف في مسجد البيوت، ويجوز ذلك للمرأة عند الحنفية.
المبحث الثاني- حكم الاعتكاف وما يوجبه النذر على المعتكف:
وفيه مطلبان:
5- المطلب الأول- حكم الاعتكاف:
الاعتكاف غير المنذور مستحب باتفاق العلماء، ولكن يحسن بيان الآراء المذهبية لتحديد رتبة السنة على وجه الدقة.
ذهب الحنفية: إلى أن الاعتكاف ثلاثة أنواع: واجب، وسنة مؤكدة، ومستحب.
أما الواجب: فهو المنذور، كقوله: "لله علي أن أعتكف يوماً" أو أكثر مثلاً.
وأما السنة المؤكدة على سبيل الكفاية: فهي اعتكاف العشر الأخير من رمضان، لاعتكافه صلى الله عليه وسلم العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه بعده.
وأما المستحب: فهو في أي وقت سوى العشر الأخير، ولم يكن منذوراً، كأن ينوي الاعتكاف عند دخول المسجد، وأقله: مدة يسيرة، ولو كانت مشياً.
والصوم شرط لصحة الاعتكاف المنذور فقط وغير شرط في التطوع، وأقله يوم، فلو نذر اعتكاف ليلة لم يصح، وإن نوى معها اليوم لعدم محليتها للصوم، أما لو نوى بها اليوم صح.
ولو نذر الاعتكاف ليلاً ونهاراً، يصح، وإن لم يكن الليل محلاً للصوم، لأنه يدخل الليل تبعاً.
وذهب المالكية: إلى أن الاعتكاف قربة ونافلة من نوافل الخير ومندوب إليه بالشرع أو مرغب فيه شرعاً للرجال والنساء، لا سيما في العشر الأواخر من رمضان، ويجب بالنذر.
وذهب الشافعية والحنابلة: إلى أنَّ الاعتكاف سنة أو مستحب كل وقت، إلا أن يكون نذراً، فيلزم الوفاء به، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله ودوام عليه، تقرباً إلى الله تعالى، واعتكف أزواجه بعده معه. فإن نذره وجب الوفاء به على الصفة التي نذرها من تتابع وغيره، لحديث: "من نذر أن يطيع الله فليطعه". رواه البخاري.
6- المطلب الثاني- ما يوجبه النذر على المعتكف:
إذا نذر المسلم نذر يوم أو أيام، فهل يدخل معه الليل، وهل يجب التتابع بين الأيام أم لا، ومتى يدخل المعتكف هل قبل الغروب أم قبل طلوع الفجر ؟.
ذهب الجمهور: إلى أن دخول الليل مع اليوم، ويجب التتابع بين الأيام المنذورة كأسبوع أو شهر، ويدخل المعتكف قبل غروب شمس ذلك اليوم، ويخرج بعد الغروب من آخر يوم.
وذهب الشافعية إلى عدم دخول الليلة مع اليوم إلا في العشر الأخير من رمضان، ولا يلزمه التتابع فيه إلا بشرط، ويدخل المعتكف قبل طلوع الفجر، ويخرج منه بعد غروب الشمس.
وذهب الحنفية: إلى أن من أوجب على نفسه اعتكاف يومين فأكثر، لزمه اعتكافها بلياليها، لأن الليالي تدخل تبعاً لأن ذكر الأيام بلفظ الجمع يدخل فيها لياليها، ويلزمه تتابعها وإن لم يشترط التتابع، لأن مبنى الاعتكاف على التتابع، بخلاف الصوم فإن مبناه على التفرق، لأن الليالي غير قابلة للصوم، فيجب على التفرق، أما الاعتكاف فالأوقات كلها قابلة له.
وتدخل الليلة الأولى، ويدخل المسجد قبل الغروب من أول ليلة، ويخرج منه بعد الغروب من آخر أيامه.
ومن نذر اعتكاف الليالي لزمته الأيام، وتلزمه الليالي بنذر اعتكاف أيام متتابعة، ويلاحظ أن الليالي تابعة للأيام إلا ليلة عرفة وليالي النحر فتبع للنُهُر(1) الماضية رفقاً بالناس.
____________________
(1) جمع نهار.
وعبارة المالكية: إلى أنَّه يلزم المعتكف يوم بليلته المنذورة، وإن نذر ليلة فقط، فمن نذر ليلة الخميس، لزمه ليلته وصبيحتها، ولا يتحقق الصوم الذي هو من شروط الاعتكاف إلا باليوم، لا إن نذر بعض يوم فلا يلزمه شيء.
ولزم تتابع الاعتكاف في نذر مطلق، أي لم يقيد بتتابع ولا عدمه، وأما الاعتكاف غير المنذور، فيلزم ما نواه قل أو كثر بدخوله معتكفه.
ولزم دخول المعتكف قبل الغروب أو معه، ليتحقق له كمال الليلة. ولزم خروجه من معتكفه بعد الغروب ليتحقق له كمال النهار.
وذهب الحنابلة: إلى أن من نذر اعتكاف شهر، لزمه التتابع، ودخلت فيه الليالي، ودخل معتكفه قبل غروب شمس ليلته الأولى، ولا يخرج إلا بعد غروب شمس آخر أيامه.
وإن نذر اعتكاف يوم لم يجز تفريقه، ولم تدخل ليلته، ويلزمه أن يدخل معتكفه قبل طلوع الفجر، ويخرج منه بعد غروب الشمس، لأن الليلة ليست من اليوم، وهي من الشهر، وإطلاق اليوم يفهم منه التتابع فيلزمه، كما لو قال متتابعاً، وكذا إطلاق الشهر يقتضي التتابع، كما لو حلف: "لا يكلم زيداً شهراً" وكمدة الإيلاء والعنة والعدة، بخلاف الصيام. فإن أتى بشهر بين هلالين أجزأه ذلك، وإن كان الشهر ناقصاً، وإن اعتكف ثلاثين يوماً من شهرين جاز، وتدخل فيه الليالي، لأن الشهر عبارة عنهما، ولا يجزئه أقل من ذلك.
وذهب الشافعية: إلى أنه إذا نذر اعتكاف يوم لم يلزمه معه ليلة، بلا خلاف، فالليلة ليست من اليوم، بل يلزمه أن يدخل معتكفه قبل طلوع الفجر ويخرج منه بعد غروب الشمس، لأن حقيقة اليوم: ما بين الفجر وغروب الشمس.
وإن نذر اعتكاف شهر بعينه، لزمه اعتكافه ليلاً ونهاراً أي دخلت لياليه، سواء أكان الشهر تاماً أم ناقصاً، لأن الشهر عبارة عما بين الهلالين أي جميع الشهر، تم أو نقص إلا أن يستثنيها لفظاً. وإن نذر اعتكاف نهار الشهر، لزمه النهار دون الليل، لأنه خص النهار، فلا يلزمه الليل. وهذا موافق للحنابلة.
والراجح عند الأكثرين من الشافعية أنه إن نوى التتابع أو صرح به، لزمته الليلة، وإلا فلا.
والصحيح أنه لا يجب التتابع بلا شرط، وأنه لو نذر يوماً لم يجز تفريق ساعاته، وأنه لو عين مدة كأسبوع وتعرض للتابع فيها لفظاً وفاتته، لزمه التتابع في القضاء، وإن لم يتعرض للتتابع لم يلزمه في القضاء جزماً، لأن التتابع فيه لم يقع مقصوداً، بل لضرورة تعين الوقت، فأشبه التتابع في شهر رمضان.
7- المبحث الثالث- شروط الاعتكاف:
يشترط لصحة الاعتكاف ما يلي:
1- الإسلام: فلا يصح الاعتكاف من الكافر، لأنه من فروع الإيمان.
2- العقل أو التمييز: فلا يصح من مجنون ونحوه، ولا من صبي غير مميز، لأنه ليس من أهل العبادات، فلم يصح منه الاعتكاف كالكافر، ويصح اعتكاف الصبي المميز.
3- كونه في المسجد: فلا يصح في البيوت، كما بينا، إلا أن الحنفية أجازوا للمرأة الاعتكاف في مسجد بيتها: وهو محل عينته للصلاة فيه.
4- النية اتفاقاً: فلا يصح الاعتكاف إلا بالنية، ولأنه عبادة محضة، فلم تصح من غير نية كالصوم والصلاة وسائر العبادات. وأضاف الشافعية: إن كان الاعتكاف فرضاً، لزمه تعيين النية للفرض، لتميزه عن التطوع.
5- الصوم: شرط مطلقاً عند المالكية، وشرط عند الحنفية في الاعتكاف المنذور فقط دون غيره من التطوع، وليس بشرط عند الشافعية والحنابلة فيصح بلا صوم، إلا أن ينذره مع الاعتكاف، ويصح عند الجمهور غير المالكية اعتكاف الليل وحده إذا لم يكن منذوراً.
6- الطهارة من الجنابة والحيض والنفاس: شرط عند الجمهور، إلا أن الخلو من الجنابة شرط عند المالكية لحل المكث في المسجد، لا لصحة الاعتكاف، فإذا احتلم المعتكف وجب عليه الغسل إما في المسجد إن وجد في ماء، أو خارج المسجد.
وكذلك قال الحنفية: الخلو من الجنابة شرط لحل الاعتكاف، لا لصحته، فلو اعتكف الجنب، صح اعتكافه مع الحرمة. وأما الخلو عن الحيض والنفاس فهو شرط لصحة الاعتكاف الواجب وهو المنذور، لأن الصوم شرط لصحته، ولا يصح الصوم من الحائض والنفساء.
7- إذن الزوج لزوجته: ذهب الجمهور إلى أنه الحنفية والشافعية والحنابلة، فلا يصح اعتكاف المرأة بغير إذن زوجها، ولو كان اعتكافها منذوراً.
وذهب المالكية إلى أن اعتكاف المرأة بغير إذن زوجها صحيح مع الإثم.
وأضاف المالكية شرطاً آخر: وهو الاشتغال بالعبادة على قدر الاستطاعة ليلاً ونهاراً، من الصلاة والذكر والتلاوة خاصة، فلا يشهد جنازة ولا يعود مريضاً، ولا يدرس العلم.
8- المبحث الرابع: ما يلزم المعتكف وما يجوز له:
اتفق الفقهاء على أنه يلزم المعتكف في الاعتكاف الواجب البقاء في المسجد، لتحقيق ركن الاعتكاف وهو المكث والملازمة والحبس، ولا يخرج إلا لعذر شرعي أو ضرورة أو حاجة.
ذهب الحنفية: إلى أنه يجوز للمعتكف الخروج في اعتكاف النفل أو السنة المؤكدة، لأن الخروج ينهي الاعتكاف ولا يبطله، لكن لو شرع في المسنون وهو العشر الأواخر من رمضان بنيته، ثم أفسده، يجب عليه قضاء اليوم الذي أفسده لاستقلال كل يوم بنفسه، في رأي جمهور الحنفية.
وحرم على المعتكف اعتكافاً واجباً الخروج إلا لعذر شرعي كأداء صلاة الجمعة والعيدين، فيخرج في وقت يمكنه إدراكها مع صلاة سنة الجمعة قبلها، ثم يعود، وإن أتم اعتكافه في الجامع صح وكره.
أو لحاجة طبيعية: كالبول والغائط وإزالة النجاسة، والاغتسال من جنابة باحتلام، لأنه عليه الصلاة والسلام كان لا يخرج من معتكفه إلا لحاجة.
أو لحاجة ضرورية: كانهدام المسجد، أو أداء شهادة تعينت عليه، أو خوف على نفسه أو متاعه من المكابرين، أو إخراج ظالم له كرهاً وتفرق أهله. وعليه أن يدخل مسجداً آخر غيره من ساعته.
فإن خرج ولو ناسياً ساعة بلا عذر، فسد الواجب، وانتهى به غيره، وعليه قضاء الواجب الذي أفسده إلا إذا أفسده بالردة، لأنها تسقط ما وجب عليه قبلها. وإن خرج لعذر يغلب وقوعه: وهو الحاجة الطبيعية والشرعية لم يفسد اعتكافه. وإن خرج لعذر نادر كإنجاء غريق وانهدام مسجد، فلا يأثم، لكن يبطل اعتكافه، إذا لم يخرج إلى مسجد آخر مباشرة.
ويفسد اعتكافه بالخروج لعيادة مريض أو تشييع جنازة، وإن تعينت عليه، إلا أنه لا يأثم. قالت عائشة: "السنة على المعتكف ألا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يمسَّ امرأة ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع". رواه أبو دواد والنسائي.
والأكل والشرب والنوم والعقد المحتاج إليه لنفسه أو عياله كبيع ونكاح ورجعة يكون في معتكفه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له مأوى إلا المسجد، ولأنه يمكن قضاء هذه الحاجة في المسجد، فلا ضرورة إلى الخروج.
فلابأس بأن يبيع ويبتاع في المسجد من غير أن يحضر السلعة، لأنه قد يحتاج إلى ذلك بأن لا يجد من يقوم بحاجته، لكن يكره تحريماً البيع لتجارة وإحضار المبيع أو السلعة إلى المسجد، ومبايعة غير المعتكف فيه مطلقاً، لأن المسجد محرر عن حقوق العباد، وفيه انشغال بها، وثبت أنه "صلى الله عليه وسلم نهى عن الشراء والبيع في المسجد، وأن ينشد فيه ضالة، أو ينشد فيه شعر، ونهى عن التحلق قبل الصلاة يوم الجمعة". رواه أبو داود والترمذي.
وذهب المالكية: إلى أنه لا يخرج من معتكفه إلا لأربعة أمور : لحاجة الإنسان، ولما لابد منه من شراء معاشه، وللمرض، والحيض، وإذا خرج لشيء من ذلك، فهو في حكم الاعتكاف حتى يرجع. فلا يخرج لعيادة مريض وصلاة جنازة وصعود لأذان أو سطح للمسجد، ويجوز سلامه على من بقربه، وتطيبه بأنواع الطيب وإن كره للصائم غير المعتكف، لأن معه مانعاً يمنعه من إفساد اعتكافه وهو بالمسجد، وجاز له أن يزوج ويتزوج، ويستصحب ثوباً غير الذي عليه، لأنه ربما احتاج له.
وذهب الشافعية: إلى أنه لا يجوز للمعتكف أن يخرج من المسجد لغير عذر، لقول عائشة: "إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل علي رأسه وهو في المسجد، فأُرجِّله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان، إذا كان معتكفاً" رواه البخاري ومسلم. فيجوز أن يخرج رأسه وأرجله أو يخرج للحاجة الطبيعية، ولا يبطل اعتكافه لحديث عائشة هذا. فإن خرج من غير عذر بطل اعتكافه، لأنه فعل ما ينافي الاعتكاف: وهو اللبث في المسجد.
ويجوز أن يمضي إلى البيت للأكل، ولا يبطل اعتكافه، لأن الأكل في المسجد ينقص المروءة، فلم يلزمه. كما له الخروج لشرب الماء إن عطش ولم يجد الماء في المسجد.
ويخرج لصلاة الجنازة وعيادة المريض في اعتكاف التطوع، ولا يخرج في اعتكاف الفرض، فإن خرج في الحالين بطل اعتكافه.
ويلزمه الخروج لصلاة الجمعة إن كان من أهل الفرض، والاعتكاف في غير الجامع، لأن الجمعة فرض في الشرع، فلا يجوز تركها بالاعتكاف، ويبطل اعتكافه، لأنه كان يمكنه الاحتراز من الخروج، بأن يعتكف في غير الجامع، فإن لم يفعل بطل اعتكافه.
ويلزمه الخروج لأداء شهادة إن تعين عليه، لأنه تعين لحق آدمي، فقدم على الاعتكاف، ولا يبطل اعتكافه، لأنه مضطر إلى الخروج. وللمعتكفة أن تخرج إذا طلقت لتعتد، ولا يبطل اعتكافها أيضاً، لاضطرارها إلى الخروج.
ومن مرض مرضاً لا يؤمن معه تلويث المسجد كإطلاق الجوف وسلس البول، خرج كما يخرج لحاجة الإنسان ولا ينقطع التتابع. وإن كان مرضاً يسيراً يمكن معه المقام في المسجد من غير مشقة كالصداع ووجع الضرس والعين ونحوها لم يخرج، فإن خرج بطل اعتكافه. وإن كان مرضاً يشق معه الإقامة في المسجد لحاجته إلى الفراش والخادم وتردد الطبيب ونحو ذلك، فيباح له الخروج، والأصح أنه لا ينقطع به التتابع.
وإن أغمي عليه، فأخرج من المسجد، لم يبطل اعتكافه، لأنه لم يخرج باختياره وإن سكر فسد اعتكافه. وإن ارتد ثم أسلم بنى على اعتكافه.
وإن حاضت المعتكفة، خرجت من المسجد، لأنه لا يمكنها المقام في المسجد، ولم يبطل اعتكافها إن كان في مدة لا يمكن حفظها من الحيض، وإذا طهرت بنت عليه، كما لو حاضت في صوم شهرين متتابعين. ويبطل اعتكافها إن كان في مدة يمكن حفظها من الحيض، كما لو حاضت في صوم ثلاثة أيام متتابعة.
ويبطل الاعتكاف بالخروج إلى الحج الذي أحرم به، لأن الخروج حدث باختياره لأنه كان يسعه أو يؤخره.
وإن خاف من ظالم فخرج واستتر، لم يبطل اعتكافه، لأن مضطر إلى الخروج بسبب هو معذور فيه.
وإن خرج من المسجد ناسياً أو مكرهاً محمولاً أو أكره حتى خرج بنفسه، أو أخرجه السلطان ظلماً لم يبطل اعتكافه، لقوله صلى الله عليه وسلم : "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" فإن أخرجه السلطان بحق، كأن وجب عليه حق وهو يماطل به مع قدرته عليه، أو أخرجه ليقيم عليه عقوبة شرعية من حد أو قصاص أو تعزير ثبت عليه بإقراره، بطل اعتكافه. وإن ثبت عليه بالبينة لم يبطل ولا ينقطع به التتابع، فإذا عاد بنى.
وإن خرج لعذر، ثم زال العذر، وتمكن من العود، فلم يعد، بطل اعتكافه، لأنه ترك الاعتكاف من غير عذر، فأشبه إذا خرج من غير عذر.
ويجوز للمعتكف أن يلبس ما يلبسه في غير الاعتكاف، إذ لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه غير شيئاً من ملابسه. ويجوز أن يتطيب ويتزين، لأنه لو حرم التطيب عليه لحرم ترجيل الشعر كالإحرام، وقد روى الشيخان أن عائشة كانت ترجل شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف، فدل على أنه لا يحرم عليه الطيب. ويجوز أن يتزوج ويزوج، ويجوز دراسة العلم وتدريسه، لأن ذلك كله زيادة خير، ويجوز أن يأمر بالأمر الخفيف في ماله وضيعته، ويبيع ويبتاع، لكنه لا يكثر منه، لأن المسجد ينزه عن أن يتخذ موضعاً للبيع والشراء، فإن أكثر من ذلك كره لأجل المسجد، ولم يبطل به الاعتكاف. ويجوز أن يأكل في المسجد، لأنه عمل قليل لابد منه، ويجوز أن يضع فيه المائدة، لأن ذلك أنظف للمسجد، ويغسل فيه اليد، وإن غسل في الطست فهو أحسن.
وذهب الحنابلة: إلى أن المعتكف الذي لزمه تتابع الاعتكاف كمن نذر شهراً أو أياماً متتابعة ونحوه، لم يجز له الخروج من المسجد إلا لحاجة الإنسان أو لما لابد له منه، أو لصلاة الجمعة، كحاجة الإنسان من بول وغائط وقيء بغتة وغسل متنجس يحتاجه، والطهارة عن الحدث كغسل جنابة ووضوء لحدث، لأن الجنب يحرم عليه اللبث في المسجد، والمحدث لا تصح صلاته بدون وضوء.