أولا النهج الشعري :
لم تكن هذه المجموعة الشعرية للشاعر هي الأولى ، بل له مجموعة أخرى سابقة عليها ، ومن خلال اطلاعي على هذه المجموعة ، أحسست أن الشاعر بدأ مجددا في نهج القصيدة ، فهو متحرر إلى حد ما من النمط التقليدي للقصيدة العربية ، وقد شمل هذا التجديد معظم قصائده خلا قصيدتين هما : " إيماءات الأصيل " و " حزينة النهر المقوس "
أما فيما يتعلق بديوانه الذي قراناه معا ، فقد راوح الشاعر في قصائده بين النمط التجديدي والنمط التقليدي من حيث الشكل ، فقد اشتمل الديوان على عدد من القصائد الحرة ، وأخرى من القصائد الخليلية ، استمع إليه يقول من الشعر الحر :
اعترفت كل دوائر حزني أني سبب .. سبب
هذا الماء الطيب جدا .. كيف تغير ؟؟
كيف تحول وحشا يمضغ أعصابا ويجرد أعشابا من رائحة العشب ؟
هل كان ثوابا ..
أم كان من الله عقابا ؟!
ولم يقتصر هذا التراوح أو التزاوج بين النهجين على قصائد معينة ، وإنما نجد الشاعر في أغلبها مشدودا إلى النهج التقليدي ، وأكثر من هذا أن الشاعر كان يخلط في أجزاء القصيدة الواجدة بين النمطين من الشعر ، فهو لا يزال منبهرا بما تحمله القصيدة التقليدية من موسيقا خارجية طنانة ممثلة في بحرها الشعري وقافيتها الفخمة وألفاظها الخطابية المتوهجة ، استمع إليه من قصيدة جمع فيها النمطين من الشعر وغيرها أكثر :
لم يعد بد من الثأر المدقى أو عوض
فاتعظ
أيها المحتل مهما سمتنا شردتنا ..
بالغت في إيلامنا
لن ننقضي ..
فلتنقرض
كم من الموت إلى الموت سنبقى
كم من الذل إلى الذل سنبقى
كم من الظلم إلى الظلم سنبقى
كلهم قالوا ..
ولكن فلسطين استوت صوت وزندا
سوف أبقى
سيموت الظلم والذل وابقى
ويقول في مقطع أخر من القصيدة :
في يدي السكين يا " هياب " تنقض على حلق المعسكر
مؤمن في كفه نبل .. وفي أعماقه الله أكبر
ثانيا : لغته الشعرية :
ونعني باللغة الشعرية ما تعارف عليه النقاد من استخدام الشاعر لمكونات القصيدة اللفظية ذات التداعيات والدلالات الإيحائية ، وهو ما اتفقوا عليه بالمدلولات الانفعالية للكلمة ، ولا يعنينا في هذا المقام ما قال به بعض النقاد من مفهوم للغة الشعرية بأنها الإطار العام الشعري للقصيدة ، والتي يقصد بها مكونات العمل الشعري من ألفاظ وصور وخيال وعاطفة وموسيقا ومواقف بشرية .
وعليه ، فقد تميزت لغة شاعرنا بالشفافية والوضوح ، فهي بعيدة عن لغة التعتيم والتهويم في سرف الوهم واللاوعي ، تلك اللغة التي تلفها الضبابية القائمة والرمزية المبهمة ، فلغته ناصعة واضحة لا غموض فيها ، وتعبر عن مضامينه بأسلوب أقرب فيه إلى التصريح المليح منه إلى التلميح ، هذا يعني أن الشاعر ذو مهج تعبيري سلس ، وقاموسه الشعري لا يحتاج إلى كد ذهني وبحث في تقاعير اللغة ، وأنا إذ أصرح بهذا إنما أغبط شاعرنا على الرؤى الواضحة والألفاظ المعبرة بذاتها ، وقد لمح الشاعر نفسه عن ميله لهذه السهولة بقوله :
يا أيها القلم اعتزل
لغة التكلف والإشادهْ
واحمل رسالة شاعر
مستمسك بهوى بلاده
لم يتخذ لهوا ولم
يسلم لشهوته قيادة
وأصدع بجلجلة الوضوح
ودع لغيرك ما أراده
وإلى جانب هذه السهولة والوضوح اللغوي ، نراه يتكئ أحيانا على الموروث اللغوي ليطعم به مكتسبه ، كما في قوله :
فاتئد واسفح على أضغانهم
لغة الصبر وبارك ديمه
وفي قوله :
يا جديرا بصقيل صارم
منك القينا إليك الجنفا
وقوله :
أثيري النقع في سنابك الخيول
وقوله :
وتنادى لوغى يوم عصيب
ثالثا : خياله الشعري :
لقد وصف النقاد الخيال الشعري بأنه قوة سحرية وتركيبية تعمل مع الإرادة الواعية ، فهو مصحوب دائما بالوعي ، وفي داخله يتم التوحد بين الفنان وبين المعطيات الخارجية ، وعن طريق تجمع هذه المستوعبات والمشاعر يعمل الخيال على خلق بناء خيالي متكامل ، ومن المنطلق السابق نجد شاعرنا يثور أحيانا على الصور البلاغية التقليدية والعبارات العاطفية ، ويحاول استبدالها بالصور الشعرية المهموسة ، أستمع إليه يقول :
آه .. آه
ما أشغلني عن بكرة همي
ما أحوجني لرياح الحسم
ما أتعسني في عين الزمن العاري
لكن لست وحيدا ..
ها أنت معي .. ها أنت معي يدي اليسرى
بعض تفاصيل القصص الأخرى
طرف من هم ممتد
يسترضي كل صباح بين ضلوعي
غير أن السمة الغالبة على قصائد الديوان ، أن كثيرا من الأخيلة والصور التي تناولها الشاعر كانت في حد ذاتها صورا حسية ، أو قل إنها في الأغلب الأعم تميل إلى الحسية ، وإن كان يحاول أن يضفي عليها ظلال البناء الفنى الذي يستمد وجوده من عناصر الصور الشعرية نفسها ، لا من عناصر الواقع الملموس ، ونرى هذا النوع من الصور في قوله :
أيها الأطفال يا ماء المحاجر
أيها الأبكار .. يوما ستدلن الثأر في أعماق ثائر
أيها الزيتون والدفلى وأعشاب المقابر
نكأ الجرح أغرابي
وطريق الثأر شباكي وبابي
شطت الرحلة أم أقعت بقوسي ونشابي
وفي نهاية المطاف حيث المحطة الأخيرة التي وقفنا نودع فيها شاعرنا ، الذي حاول حينا أن يتحفنا بما جادت به قريحته ، وأن يحلق بنا في خيالاته العلوية ، ويصهرنا في أتون ثورته الداخلية الوطنية المعطاءة حينا آخر ، ولا يسعنا إلا أن نتمنى له ديمومة الإيداع ونأمل منه المزيد ، ونهمس في أذنه بألا يكرر ذاته ، وان يكون دائما ودائما متجددا.