عرض مشاركة واحدة
قديم 10-13-2010, 04:14 PM   رقم المشاركة : 2
ابو فارس
 
الصورة الرمزية ابو فارس





ابو فارس غير متواجد حالياً

ابو فارس على طريق التميز


افتراضي

يقول أحد الباحثين الرمز تركيب لفظي أساسه الإيحاء عن طريق التشابه بما لا يمكن تحديده بحيث تتخطى عناصره اللفظية كل حدود التقرير موحدة بين أمشاج الشعور والفكر، والرمز نوع من الخيال الموغل في التحليق والتجنيح في عوامل الرؤى اللا شعورية ، وهو وميض يشع في أعماق الشاعر يصرفه عن حقائق الواقع إلى أجواء سحرية يصبح فيها إحساسه الواعي غير منضبط السيطرة على التوازن المدرك للأشياء وحقائقها ، ويصبح الخطاب الشعري عنده مجرد بنى وتراكيب أوشكت أن تفقد السيطرة على مضمون ذلك الخطاب ، غير أنه في بعض الأحيان يكون رابطا قليلا بين الوعي واللاشعور وهذا النوع من الرمز أراه شيئا من العبثية التي تنهك صاحبها فحسب .
أما إذا وازن الشاعر في ربطه بين الوعي واللاشعور دون إسراف أو إغراق في الغموض بحيث لا يصل الرمز إلى أحد التعتيم والألغاز يكون مقبولا ، بل محببا إلى نفس المتلقي الذي يملك ناصية الثقافة وحضور الوعي الأدبي . فالرمز لا ينبغي أن يكون مجرد إشارة تاريخية عابرة أو تلاعب بالألفاظ أو بنى وتراكيب لغوية يعتورها الخلل وإنما يجب أن يكون طاقة من التعبيرات والدلالات لا أول لها ولا أخر إنها بناء لغوي متكامل يحشد فيه الشاعر كما هائلا من الألفاظ بعضها يحمل دلالات والأخر يفتقد لها ، ومن هنا يمكننا القول أن الرمز المقبول والذي يضفي على العمل الفني لونا من الفنية الجميلة التي تحرك في نفس المتلقي بواعث العطاء الإدراكي وتحثه على أن يكون متواصل الحضور الثقافي كي يدرك ما ترجمه الشاعر في قصيدته ، إنه الرمز الذي يتلاحم مع بنية القصيدة ويتوحد مع مضمونها يراوح الشاعر بينهما قدر جهده ، أما إذا أنفصل الرمز عن جسد القصيدة لتصبح عارية لا مضمون فيها ، أو جعل مضمونها فتاتا ممزقا لا يمكن تلاحمه مع بعضه بعضا يغدو الرمز شيئا مقيتا يود القارئ لو لم ينفق الشاعر فيه وقته وجهده جريا وراء لا شيء .
إن الرمز الذي لا إشكالية فيه ، هو الرمز الشفاف النقي الذي تستطيع بعد إمعان النظر فيه أن تصل إلى سبر أعماقه شيئا فشيئا ، وهو الرمز الذي يتيح لنا أن نتأمل شيئا أخر وراء النص قبل كل معنى خفي وإيحاء . إنه اللغة التي تبدأ حين تنتهي القصيدة ، إنه البرق الذي يتيح للوعي أن يستشف عالما لا حدود له ، لذلك هو إضاءة للوجود المعتم واندفاع صوب الجوهر ، وقد أصبح الرمز سمة بارزة من سمات الشعر الحداثي لا في المملكة العربية السعودية فحسب ، بل عند عامة الشعراء العرب المعاصرين على امتداد العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين فإذا ما ألمحنا عن الرمزية في الخطاب الشعري عند الشعراء السعوديين الشباب نقول : إن معظم قصائدهم تميزت كغيرهم من الشعراء العرب الذين يمارسون هذا اللون من الشعر بالرمزية المفرطة التي بلغت حد الغموض ، وأصبحت تمثل إشكالية بالغة يستعصي حلها لا على النقاد والباحثين والدارسين فحسب ، بل على الشعراء أنفسهم ، فالشاعر الذي يكتب القصيدة الحرة ما أن يفرغ من كتباتها ثم يعاود قراءتها يحس بينه وبين نفسه أنه لا يكاد يعي أو يسبر معا ما حشد من بنى وتراكيب لغوية ، ووجد مضامينه التي أراد نقلها إلى القارئ قد تلاشت وذابت تحت جليد الغموض الذي تصوره إبداعا سيبهر به أعين القارئين ، وبات ما كتبه يشكل نوعا من الإبهام المطلق الذي لا يدرك كنهه ولا يستوعب معانيه .
وإذا ما حاولنا أن نتلمس الدوافع التي قد تحمل بعض الشعراء إلى التحليق والاختفاء خلف سحب الرمز ، والإبحار في لججه وأعماقه يمكننا القول إنها تعود إلى عدة عوامل مجتمعة مع بعضها البعض تشكل فيما بينها نسيجا عنكبوتيا يأسر الشاعر ويلقي به في تجاويف المتاهة الرمزية .
وأول هذه الدوافع : يكمن في الصعوبة المعرفية المباشرة باعتبار أن حالات النفس حالات مركبة غير واضحة بطبيعتها ، فليس أمام الشاعر إلا أن يعرفها معرفة حدثية ، وأن يعبر عنها بنفس الطريقة أي بتعبير حدسي أساسه الإيحاء ، ونلحظ هذا التعبير الحدسي في قول الشاعر :
لماذا صمت هذه الخميس
وأنت كتبت شيئا أمس نمت على ذراعي ،
إذ حلمت بأن بعض الكون شيء غامض لطفولة تأتي
وهمسة مرتاعا : سيأتي بعدنا زمن تقل به النساء ،
حتى لا يصير هناك رحم
فالتناسل صار ظاهرة تقل وليس عناك حل ،
وثاني هذه الدوافع : أن النفس البشرية وحدة متكاملة ، وأن وسائل الإدراك وإن تعددت تتشابه من حيث وحد الأثر النفسي .. من هناك يصبح ممكن أن نعبر عن أثر معين يدخل في مجال أحدى الحواس عن طريق استخدام لفظ نستمده من مجال حسي أخر ، ويغدو المرئي مسموعا ، وهكذا مما يخلق جوا إيحائيا بعيد المدى ، ونلمح هذا
في قوله :
أتوب إلى عاشق
ويمين محلفة
نخلة تهمس إذ يهجع الليل
تدنى لذائذها لفقير
رغيف من الحزن كانت يدي حين جاء على نعمة النوم ،
حط على جفني المتورم قلت أحدثكم حين تمسون عن زائر المنام ،
له سحنة الشيخ ، قد كنت أعرفه
ذات يوم التقينا على حطب من مساءلة بين ..
وثالث هذه الدوافع : التعبير عن الرفض غير المباشر لواقع ما ، وهو رفض يأخذ صورا تختلف أشكالها وتتعمق مضامينها وجواهرها ، فكثيرا ما كان الرمز نقدا وفي بعض الأحيان يتخذ الرمز شكل التمرد الحاسم ضد بعض النظم والقوانين والقيم التي ترفضها النفس البشرية خصوصا هذه الذي تعاني من بعض العقد النفسية الناجمة عن العزلة الاجتماعية ويمكننا أن نستشف بعض هذا الذي ذكرنا من قوله :
أنا عاشق
نصف مرتهن
ونصف طليق يفتش عن قيده
قلت مرتهن
ها ثياب من الأسر ألبسها ..
أنا صرت مثل الأصابع والنار
أتركها ..
يترافع في بدني ولد اسمه الشك ،
يوسف في الجب ، سلوته نصف إغماءة ونشيج
أنا عاشق
والمدينة مزرعة للضجيج كيف نكتب هذا ؟
يوسف في الحب
وأنا نصف مرتهن
والمدينة متزرة من خطايا ودم
ورابع الدوافع : الضياع الذي يعاني منه الشاعر في عصرنا الحديث حيث يبحث الشاعر عن ذاته فلا يجدها بين ركامات المجتمع الذي تتعاوره كثير من القيم المتناقضة ، فهو صراع بين الخير والشر والحب والكره ، والحق والباطل مما يجعل الشاعر ضائعا بين تلك الصراعات استمع إليه يقول :
ولد على شك ، وغربته اتساع الحلم ،
سلوته قصيدته ومنحدر من البدو الذين تكسرت في ظعنهم بيداؤهم
إذ قوضت تلك الرياح خيامهم فإذا بهم حتف .
وخامس الدوافع : أن مسألة الغموض أو الإغراق في الرمز ليست متولدة عن صعوبة في بنية الخطاب الشعري أو الإبداع الفني ، بقدر ما هي متأتية عن موقف فكري معين .
وسادسها : هو لجوء الشاعر إلى استقراء التاريخ والتراث الفكري والتغلغل في رموزه الشعبية وأساطيره الحبلى بالخرافات والجنس والموت والرحلة ، ثم يستوحي من كل ما سبق ما يتواءم مع مشاعره الحسية ووعيه الفني ليحيك لنا لونا جديدا من الحكايا المليحة في غلالة من الرمز ، ولا أظنه رمزا مغرقا في الغموض بل يتسم بالتلميح والمداراة حتى لا يصطدم الشاعر بقيم المجتمع الرافضة أحيانا لكل ما هو جديد وغير مألوف .
وقد أطلق بعض النقاد الغربيين على هذا النوع من الرمز الذي يستحضر فيه الشاعر الأساطير والأقاصيص الشعبية القديمة بالرموز التقليدية ، وهو إلى جانب ذلك رمز خارق للطبيعة التي يهتدي إليها الشاعر عن طريق مزجه بين الحقيقة والخيال في نوع من الرؤية ، وبالرمز التقليدي والرؤية تتفتح مغاليق الحياة اللاواعية وتصل إلى منابع الخيال المبدع .
ونلمح هذا الرمز المتولد عن استخدام الشاعر للاسطورة في قصيدة " أسطورة " التي أستحضرها من أدبنا العربي القديم ..
قالوا هذا الحسن الطافح في عيني ليلى ..
من أين أتاها ؟
هذا الوشم الساقط دوما في كف امرأة غجريهْ ..
من سواه بكفيها ؟
هذا الغضب المشرع في وجه رجال القرية
من نماه بعينيها ؟
من علم ليلي أن تسكن في صدر رجلْ ؟
أن تختلط بأنفاسه
أن تنسي خجل الأنثى ؟
قال الشيخ الواقف في وسط الحلبة
لم لا نقطع أصل العشق فننجو
هذى شجرته المزروعة في درب القرية
قصوها عن أخر جذر حتى لا تخرج ليلى أخرى
كي تستوطن صدر رجل .
وبهذه الرؤى الحرة حاول الشاعر اكتشاف العقلية الجديدة والتعبير عنها بلغة شعرية متحررة في بنائها وفي إيقاعها ..
فقد تحرر من بنية القصيدة المحافظة وموسيقاها التقليدية القائمة على تفعيله الخليل ابن أحمد ، وكذلك من القافية الرتيبة التي تحد من انطلاقته الشعرية ..
ومن تتبعنا لقصائد الديوان التي اتسمت بالرمزية والإفراط في الغموض نجد معظمها قد تحرر من المضمون كما تحرر من الزمن .. فالزمنية مفقودة الحلقات في كثير من القصائد المرموزة بل يمكننا القول بأن هذه القصائد أصبحت متحررة حتى من حرارة العاطفة المسرفة وحلت الوحدة السيمفونية بين أجزاء القصيدة كما يقول " مالارميه " أبهاما على القارئ أن يعثر على مفتاحه ، ولنستمع إليه يقول في قصيدة هذيان :
كنت أحدثكم
وقلت سأشرق يا وجه زائر النوم
علمني أن أغنيك يا حجرا في الجنوب ينام وينعس
تحتشد الصبح نعناعة في نتوءاته
تحدثه من حديث الندى جملتين
وتسأله أن يكون وسيما ..
ومعذرة
ثم يقول في جملة شعرية أخرى :
كنت أحدثكم ونسيت بأني أحدثكم عن رؤى في المنام
عن امرأة حملت وطنا في يدها
كلمني ـ وقتها ؟ ـ بلبل الوقت عن وطن وغزاة
وصد وكر وفر
مهاجمه بين جيشين
معركة من غبار .
من خلال الجملتين الشعريتين اللتين اقتبسناهما من قصيدة " هذيان " وما توسطهما من جمل شعرية أخرى نلمح أن الشاعر لم يكن حاضر الوعي الشعري ، فهو ـ كما يقول ـ يهذي ويتحدث عن رؤى في المنام ، لذلك نجد أن كل جزئيه من جزئيات الرمز ليست لها قيمة في ذاتها بل أن قيمتها تدرك من خلال وظيفتها الإيحائية في البناء العام للرمز ، فكل من الحجر والنوم والنعاس والندى والمرأة التي حملت موطنا في يدها ، والبلبل والجيشين والمعركة من الغبار لا يعني منفردا ودون ربطة ببعض من خلال البناء الشعري أكثر من دلالته الوضعية المعجمية ، ولكنه إذا ما انتظم في بناء القصيدة وغدا عضوا حيا في جسد الرمز يكون له معان كثيرة نستوحيها من السياق ..
كما أننا نحس بهذا التفكك في البنية الأساسية للقصيدة من خلال التعبير عن حالة من فقدان الربط بين اللاشعور والوعي ، حالة غياب العقل وإطلاق العنان للاشعور كي يبوح بمخزونه وينطق بمحتواه ..
فغدت الجمل الشعرية مبعثرة لا روابط بين أجزائها ، فهي مفتقرة إلى كثير من حروف الربط التي تشد من بناء القصيدة ، كما يتخللها كثير من الجمل الاعتراضية وأفعال القول التي تؤكد أن الشاعر لم يكن آنذاك يملك التوازن الواعي حتى يربط بين جزئيات الرمز ، ونلحظ ذلك في قوله وقد أكثر من الجمل الاعتراضية :
كنت أحدثكم
وأعرفه ـ حزنك المتوحد ـ تسألهم عن حديث الذي يدثر بالخوص
كي لا يري الناس سوأته ..
كلمني ـ وقتها ـ بلبل الوقت عن وطن وغزاة
وصد وكر وفر تبحث أرحلكم عن لآل
أو حكايات ـ لا بأس ـ تسكنها سحنة الشيخ .
أما الإكثار من فعل القول فندركه في قوله :
حط على جفني المتورم ، قلت أحدثكم ..
قلت : أعرفه قد تدلى الكلام الجميل
وصار لشكل فراغ الأواني ظلالا تؤرقهم أو تؤرخهم
كنت أحدثكم وقلت سأشرق يا وجه زائر النوم
قلت أحدثكم
للحديث انقطاع عن الناس
إني صحوت عن الهرج والمرج
متكئا فوق سور
من الشك
والهذيان
ومن المنطلق السابق ندرك أن القيمة الأسلوبية للرمز لا يمكن أن تتحقق من خلال البنية المفردة أو التراكيب البنائية البسيطة الساذجة القاصرة عن التعبير الفني الموحي ، ولذلك فإن العمل الشعري يكون أكثر أحكاما ودقة متى تآزرت فيه الرموز الجزئية وتلاحمت تلاحما كليا يمتد على رقعة الخطاب الشعري ليخلق فيه نبضا شعريا شاملا ..
وخلاصة القول إن مسألة الغموض تبقى مسألة نسبية عند شعراء الرمز فمنهم من يستحضرها ليضفي على الخطاب الشعري نكهة لذيذة تفتح شهية المتلقي وتجبره على التفاعل معها بحضور ثقافي واع ، ومنهم من يتخذها غاية لذاتها يبني منها وهما مضطربا لا يحوي إلا رؤى شوهاء تحط من قيمة العمل الفني وفي رأيي المتواضع أنه لا يلجأ إلى هذا النوع من الرمز إلا أحد اثنين : واحد لا يملك ناصية الخطاب الشعري ولا مقوماته الفنية فيتخذ من الرمز الممقوت ستارا يخفي وراءه عجزه عن الإبداع خصوصا هؤلاء المتشاعرين الذين لا يملكون أدوات العمل الفني وخصوصياته ، والأخر هو ذلك الشاعر المتمكن ولكنه يحمل في دواخله الواعية أيدلوجية معينة يصدر عنها غير أنه يخشى البوح بها فيلفها في لفافات من التبغ المسمومة ويصدرها إلى من يعشق التدخين .
كانت هذه أخر محطة استرحت فيها وأخواني في ديوان شاعرنا عبد الله الصيخان دون ملل أو كلل أملا منهم ألا يقسون عليّ عند مشاركتي القراءة ، وإن يغفروا لي زلات لساني وكبوات قلمي وأن يستدركوا ما فاتني بفطنتهم وحضورهم الواعي على أمل اللقاء في قراءة قادمة وديوان شعر جديد بإذن الله.

رد مع اقتباس