البــــاب الـــرابع :
الخطا0طون العظام
1-ابن مقلة..
2-ابن البواب..
3-ياقوت المستعصمي..
4-الحافظ عثمان
5-هاشم البغدادي..
6-حامد الآموي..
ابن مقلة
272-328هـ / 866-940م
بلغ الكتاب أوجه في العصر العباسي، وانتشرت صناعة الورق وتفننوا في قطّ القلم، وحددوا له أنواعاً لكل خط، والتقى الأدباء والفنانون في دكاكين الوراقين بالفنانين والخطاطين.
وكثرت الخطوط، وكثر الخطاطون، فكان لا بد من وضع المقياس الثابت للخط، لإدراك صحيحه من سقيمه، فكان فارس هذا الميدان شاب عاش عيشة البسطاء، ومن عائلة بسيطة رغم أنها كانت مشهورة بالخط وقد توارثته قبله وبعده.
هذا الخطاط الذي كان فيصلاً لمن قبله وبعده، هو أبو علي محمد بن علي ابن حسن( ) بن مقلة( ).
مولده ونشأته
ولد ابن مقلة (في بغداد بعد عصر يوم الخميس في عشرين من شهر شوال سنة 272هـ – 866م)( ).
(ومقلة اسم أمه كان أبوها يرقّصها فيقول: يا مقلة أبيها، فغلب عليها)( ).
وكان هذا الاسم يرافق العائلة بأسرها، كما أن الخط قد رافقها فقد (كان أخوه مليح الخط، وأبوه أيضاً، وله ولأخيه ذرية كانوا ممن يحسنون الخط، لكنهم لم يبلغوا محمد بن مقلة)( ).
وكان أخوه الحسن (أبو عبد الله) منقطعاً إلى بني حمدان سنين كثيرة يقومون بأمره أحسن القيام، وقد أخطأ ياقوت الحموي حين نسب لسيف الدولة أنه فقد خمسة آلاف ورقة من خط أبي علي بن مقلة وهي في الحقيقة لأبي عبد الله الحسن بن علي بن الحسن بن عبد الله بن مقلة( ).
ذلك لأن أبا علي بن مقلة لم يطأ حلب.
أخذ أبو علي عن كبار علماء عصره في بغداد علوم الأدب واللغة (وروى عن أبي العباس ثعلب، وأبي بكر بن دريد)( ).
فكان من نتيجة همته العالية وطموحاته المتواصلة أن صعد سلّم ريادة الخط، فكان رائد الخط العربي في العصر العباسي، كما صعد سلّم السياسة فكان وزيراً أكثر من مرة، وقد أودت به طموحاته إلى السقوط، فقد قطعت يده التي كان يخط بها، كما دخل السجن بسبب سياسته الهوجاء فقضى حياته فيه، ومات بين جدرانه بائساً.
في الوزارة
صحيح أن ابن كثير قال عنه: كان في أول عمره ضعيف الحال، قليل المال)( ) إلاّ أنه استطاع أن يغير تلك الحال البائسة إلى أفضل حال. وأن ينثر المال حتى في غير أماكنه كما ينثر التراب، فقد كان في أول أمره أن أصبح جابياً لخراج بعض أعمال بلاد فارس، فتغيرت أحواله من سيء لحسن، ومن حسن لأحسن، وبلغت سمعته الحسنة الخليفة المقتدر، فلما شغر منصب الوزارة التي كان يتسلمها علي بن عيسى، سمّي للخليفة ثلاثة ممن يرشحهم هذا المنصب وهم: (الفضل بن جعفر بن الفرات، وأبو علي بن مقلة، ومحمد بن خلف النيرماني، فقيل للخليفة المقتدر: أما ابن الفرات فقد قتلنا عمه الوزير أبا الحسن وابن عمه، وصادرنا أخته ولا نأمنه، وأما ابن مقلة فحدث غرٌّ لا تجربة له بالوزارة ولا هيبة له في قلوب الناس، وأما محمد بن خلف النيرماني فجاهل متهوّر ولا يدفع عن صناعة الكتابة والمعرفة)( ).
وأحب ابن مقلة أن يكون وزيراً للمقتدر، وبذل في سبيل ذلك ما يملك من دهاء وخبرة في السياسة، فأُرسل إلى الأنبار ومعه خمسون طائراً لنقل الأخبار( ) التي كانت تحدث سريعاً، وتكاد تهدد جسم الدولة لكثرة الأحداث والفتن، فكانت الأخبار تأتيه على أجنحة الأطيار، فقيل للخليفة: (هذا فعله ابن مقلة فيما لا يلزمه، فكيف إذا اصطنعته؟) فولاّه المقتدر الوزارة على ما سمع عنه.
استلم ابن مقلة الوزارة فقرّب منه أصدقاءه وأقاربه، (فكان يعينه في تدبير أمور الوزارة أبو عبد الله البريدي لمودّة كانت بينهما)( ) وكان ذلك سنة (316هـ) وبعد سنتين وأربعة أشهر أمر الخليفة أن يقبض عليه وأن تصادر أملاكه، ثم نفاه إلى بلاد فارس، وأحرق داره ليلاً، ونهب الناس ما فيها من حديد وأثاث وحجارة ليلاً( ).
وفي عيد الأضحى سنة (320هـ) استوزره الإمام القاهر بالله، وبقي وزيراً له إلى أول شعبان سنة (321هـ) حيث بلغ الخليفة أن ابن مقلة قد تعاون مع ابن بليق للفتك بالخليفة، فاستتر واختفى عن أعين الناس، وكان ابن مقلة قد ضاق ذرعاً بالخليفة، وراح ينشر بين الناس دعاية سيئة ضده لخلعه (وطاف البلاد متنكراً يؤلّب الناس عليه)( ).
ويبدو أن هذه التحركات المريبة التي كان يتحركها ابن مقلة ضد الخليفة القاهر قد أعجبت الخليفة الذي جاء بعده وهو الراضي بالله، فلما تولى الخلافة الراضي بالله في السادس من جمادى الأولى سنة (322هـ ) جعله وزيراً بعد ثلاثة أيام من توليه الخلافة( ).
إسرافه وبذخه
حين نتتبع حياة ابن مقلة نجده ولد فقيراً، وعاش مطلع شبابه حياة هي أقرب منها للبؤس من الرخاء والنعيم، لكننا نجده عاش عيشة الوزراء المتخمين والملوك، بعد أن بلغ مبلغ الرجال وأصبح وزيراً. كما نلاحظ أنه قد جمع مالاً كثيراً من خلال ولايته في فارس، وتولّيه الوزارة ثلاث مرات لثلاثة من الخلفاء. وكانت له صور من البذخ لم يسبقه إليها غيره، فخلال توليه الوزارة الأولى (كان يصرف لشراء الفاكهة خمس مائة دينار في كل يوم جمعة)( ).
وكان يحب تربية الحيوانات والطيور، ويعتني بزراعة الأشجار المثمرة، وقد تحدث ابن كثير عن بستانه الذي ملأه أشجاراً وطيوراً وحيوانات فقال: (كان له بستان كبير جداً، عدة أجربة- أي فدان)( ).
وكانت الشبكة التي يغطي بها البستان من الحرير، وتحتها صنوف الطيور مما يتجاوز الوصف( ).
تحدث عن هذا البستان ومحتوياته ابن الجوزي فقال: (كان يفرخ فيه الطيور التي لا تفرخ إلاّ في الشجر، كالقماري، والدباسي، والهزار، والببغ، والبلابل، والطواويس، والقبج، وكان فيه من الغزلان وبقر الوحش، والنعام، والإبل، وحمير الوحش)( ).
وكان يعمل في هذا البستان عمال وخدمة للشجر والطيور والحيوانات وقد شاهد أحد هؤلاء العمال ازدواج طائر بحري على طائر بري، ولاحظهما ملاحظة دقيقة، فلما أيقن تفريخهما، أسرع إلى ابن مقلة وبشّره (بأن طائراً بحرياً وقع على طائر بري فازدوجا وباضا وأفقسا، فأعطى من بشّره بذلك مائة دينار ببشارته)( ).
وقد ذم ابن كثير بذخ ابن مقلة، وأشار إلى زوال تلك النعمة التي كان ينعم بها وقال: (هذه سنة الله في المغترّين الجاهلين الراكنين إلى دار الفناء والغرور)( ) وذكر أبياتاً لأحد الشعراء المعاصرين له، يذم فيها بذخه حين بنى قصره الشهير وبستانه. يقول فيها:
واصبر فإنك في أضغاث أحلام
قل لابن مقلة لا تكن عجلاً
داراً ستهدم قنضاً بعد أيام
تبني بأحجُر دور الناس مجتهداً
فكم نحوسٍ به من نحس بهرام
ما زلت تختار سعد المشتريّ لها
في حال نقضٍ ولا في حال( ) إبرام
إن القران وبطليموس ما اجتمعا
حقاً لقد لاقى ابن مقلة إبان ولايته ووزارته نعيماً لا يكاد يوصف، ولم يكن عاقلاً في سياسة تلك النعمة، فانقلبت عليه وبالاً ونقمة، وجعلته عبرة لم يعتبر.
محنة ابن مقلة
من مصائب الأمراء أنهم لا ينزلون العلماء والأدباء منازلهم ويعتبرونهم كبقية الدهماء، ويجرون عليهم القانون الذي يجري على المجرمين والسوقة، وهذا ما جرى لابن مقلة حين رفع يده يعلن الرفض، وقال بلسانه: لا ثم لا. وكان يومها وزيراً للخليفة الراضي بالله.
لقد كانت بين ابن مقلة والمظفر بن ياقوت وحشة وأحقاد، وكان ابن ياقوت مستشاراً للخليفة ومقرّباً من مجلسه. فحاك ابن ياقوت مؤامرة ضد ابن مقلة، وأمر غلمانه بالقبض عليه إذا مرّ في دهليز دار الخلافة، وأقنع الغلمان أن الخليفة راض عن عمله، فلما مرّ ابن مقلة في الدهليز هجم عليه ابن ياقوت والغلمان فاعتقلوه وقبضوا عليه، وذلك يوم الاثنين 14 جمادى الأولى سنة (324هـ – 936)( ) ثم أرسل ابن ياقوت بياناً للخليفة لسبب الاعتقال عدّد فيه ذنوبه وأخطاءه التي تستدعي ما فعله به. ووافق الخليفة على تقرير ابن ياقوت وعزل ابن مقلة عن الوزارة، وقلّدت لعبد الرحمن بن عيسى الذي راح يهين ابن مقلة، ويضربه بالمقارع، ويكيل له ألوان التعذيب من التعليق بالحبال والضرب وغير ذلك، ثم أفرج عنه.
وراح ابن مقلة يتردد على ابن رائق وكاتبه، وأخذ يتذلل لهما لاستعادة أملاكه وضياعه وأملاك ولده أبي الحسين، فواعده، فلما يئس من تلك المواعيد، راح يتهم ابن رائق في كل مكان، ثم راح يكتب للخليفة مثالب أمير أمرائه، ويطلب منه أن يقبض عليه، وأنه إذا ما أعاده إلى الوزارة، وقُبض على ابن رائق فإنه سيقدم للخليفة ثلاثة ملايين دينار.
ثم راح يراسل (بجكم التركي) يُطعمه في موضع ابن رائق، وكتب إلى (وشمكير) بمثل ذلك وهو بالري، لكن الخليفة لم يكن راضياً عن تصرفات ابن مقلة المريبة، وكان يعده بإعادة أملاكه كمواعيد أمير أمرائه( ) لأنه غير راض عمن راسلهم ابن مقلة خارج بغداد.
وذهب ابن مقلة إلى الخليفة، فاعتقله وحبسه في حجرة ثم استدعى ابن رائق، وأخبره بما جرى، وطلب ابن رائق من الخليفة قطع يد ابن مقلة اليمنى التي راسل بها (بجكم التركي) و(شمكير) وخصوم الخليفة وخصومه.
وأرجئ الأمر إلى وقت لاحق، حيث عقد الخليفة لهما مجلساً مخضراً، ودار كلام كثير، أمر الخليفة في نهايته قطع يد ابن مقلة اليمنى، وأن يعود إلى السجن.
وقد ذكر بعض المؤرخين أن الخليفة قد استفتى الفقهاء فأفتوا بقطع يده( ) ولعل تلك الفتوى بسبب كثرة ما يملكه من مال وضياع وما فعله في بستانه الكبير من تربية الطيور والحيوانات، وأن ذلك كسب غير مشروع يستحق عليه العقوبة.
لكن الخليفة الراضي ندم على ما فعل، فأمر الأطباء بملازمته ومداواته في السجن حتى يبرأ، ففعلوا( ).
يقول ثابت بن سنان الطبيب: (كنت إذا دخلت عليه في تلك الحال يسألني عن أحوال ولده أبي الحسين، فأعرفه استتاره وسلامته، فتطيب نفسه، ثم ينوح على يده ويبكي ويقول: خدمت بها الخلفاء وكتبت بها القرآن الكريم دفعتين، وتقطع كما تقطع أيدي اللصوص؟
فأسلّيه وأقول له: هذا انتهاء المكروه، وخاتمة القطوع فينشدني ويقول:
فإن البعض من بعض ( ) قريب
إذا ما مات بعضك فابك بعضاً
وكان من صفات ابن مقلة أنه كان قاسياً عاطفياً عصبي المزاج، سريع الانفعال، عصامياً، فرغم أن يده قد قطعت فإنه كان يطمع أن يعود وزيراً ليفعل الأفاعيل وينتقم من غيره، وكان لا يتوانى من نقد غيره نقداً جارحاً، والنيل منه نيلاً لاذعاً.
لقد خرج من السجن مقطوع اليد، لكنه استمر يخط بهذه اليد المقطوعة خطوطاً جميلة كالتي كان يخطها وهو معافى، وكان يربط على يده عوداً (قصبة) ويكتب ما يريد بنجاح كبير( ).
وتسرّبت أقواله القاسية بحق ابن رائق وغيره، وأخذ يكتب للخليفة الراضي يستعطفه ويطلب منه أن يجعله وزيراً مرة رابعة، وكان مما كتبه له: (إن قطع اليد ليس مما يمنع الوزارة)( ).
لكن الخليفة لم يلتفت إلى طلبه، بل زاد ذلك من غيظ خصمه ابن رائق، حيث أمر (بجكم التركي) أحد المقرّبين من ابن رائق بقطع لسان ابن مقلة، ورمي بالحبس مدة طويلة، كان فيه مهملاً، لا يخدمه أحد، ولا يقدم إليه ما يلزمه، (فكان يستقي الماء لنفسه من البئر، فيجذب بيده اليسرى جذبة، وبفمه الأخرى)( ).
ولم يرض الأدباء والشعراء للواقع الأليم الذي عانى منه ابن مقلة، نتيجة معارضته لوزير أو لأمير الأمراء في الدولة، فنظموا القصائد التي تستنكر تلك الفعلة التي أقدم عليها الخليفة من قطع يده ولسانه، فقد قال أحد الشعراء:
لحاه الله من أمر بغيض
وقالوا: العزل للوزراء حيض
من اللائي يسئن من( ) المحيض.
ولكن الوزير أبا علي
كما ندد الصولي بالذين قطعوا يده للقضاء على مواهبه الفنية، أو ليخرسوا لسانه بالقمع والإرهاب والقطع فقال:
لأقلامه لا للسيوف الصوارم
لئن قطعوا يمنى يديه لخوفهم
رأيت الردى بين اللها( ) والغلاصم
فما قطعوا رأياً إذا ما أجاله
وفي الحقيقة أن أزلام الخليفة استطاعوا إسكاته وتنحيته عن الساحة السياسية، فهل استطاعوا إزاحته عن عرش المجد والخلود الذي اعتلاه بفنه وخطّه وذوقه؟
نبوغه وآثاره
شهد المؤرخون والباحثون لابن مقلة في جودة الخط وحسنه، فقد كان في عصره شيخ خطاطي بغداد، فلم يدركه أحد ممن عاصره، ولم يسبقه إلى طواعية القصبة له لاحق حتى قرون تلته. وقد ترك لنا رسالة بعنوان: "رسالة في علم الخط والقلم"( ) ورجع إليها الأستاذ معروف زريق حين كتب كتابه (كيف نعلم الخط العربي) واعتبرها من مراجعه.
وقد أسهب الباحثون في ذكر جوانب إبداعه في الخط. فقد جاء في كتاب ثمار القلوب ما يلي: (كتب ابن مقلة كتاب هدنة بين المسلمين والروم بخطه، وهو إلى اليوم –أي زمن الثعالبي سنة 429 هـ – عند الروم في كنيسة قسطنطينية، ويبرزونه في الأعياد، ويعلقونه في أخصّ بيوت العبادات، ويعجبون من فرط حسنه وكونه غاية في فنه)( ).
ويذكر البحاثة عمر رضا كحالة أنه ترك ديوان شهر صغير يقع في ثلاثين ورقة( ) من ذلك الشعر ما ذكره أصحاب الموسوعات الكبيرة كابن خلكان والذهبي وابن الجوزي وغيرهم، وقد قاله ابن مقلة في حالته البائسة بعد قطع يده:
تُ بأيمانهم فبانت يميني
ما سئمتُ الحياة لكن توثّقـ
حرموني دنياهم بعد ديني
بعتُ ديني لهم بدنياي حتى
حفظَ أرواحهم فما حفظوني
ولقد حُطتُ ما استطعتُ بجهدي
يا حياتي بانت يميني( ) فبيني
ليس بعدَ اليمين لذةُ عيشٍ
أما الأستاذ هلال ناجي فيقول عن آثاره: (ترك ابن مقلة مدرسة في الخط بعده، وله في الخط رسالة مخطوطة موجودة، لكن أثاره الخطية ضاعت، ولم يبق منها سوى مصحف واحد محفوظ في متحف هراة بأفغانستان)( ).
ونقل الذهبي خطأ وقع فيه ابن النجار حين اعتبره شاعراً أديباً وأنه (وفد على ملك الشام سيف الدولة، ونسخ له عدة مجلدات)( ).
فابن مقلة لم يدخل حلب ولا نزل بلاد الشام البتة.
صفاته وطباعه
في الحقيقة أننا حينما نقف على سيرة ابن مقلة نجده عنيفاً في حبه، عنيفاً في بغضه، يكيل لمن يبغضه الصاع، ويهيل لمن يرضى عنه بلا كيل. كان يتحدث عن نفسه مراراً فيقول: (إذا أحببتُ تهالكت، وإذا أبغضتُ، أهلكتُ، وإذا رضيتُ آثرتُ، وإذا غضبتُ أثّرتُ)( ).
لقد كان من حبه للخط أنه يمسح بالحبر ثوبه إن وجد في يده أو قلمه شيئاً من ذلك، وهذا من حبه لمهنة الخط، فقد كان يأكل يوماً. فلما غسل يده، وجد نقطة صفراء من حلو على ثوبه [ففتح الدواة] وأخذ منها الحبر وطمس مكان الحلو بالقلم وقال: (ذاك عيب، وهذا أثر صناعة) يريد صناعة الخط، وأنشد:
ومداد الدواة عطر( )الرجال
إنما الزعفران عطر العذارى
وكان يقول: (يعجبني من يقول الشعر تأدّباً لا تكسبّاً، ويتعاطى الغناء تطرّباً لا تطلّباً)( ).
وحين نجده في هذه المقولة عفيفاً، نجده في موقف آخر عنيفاً، فقد تحدث الحسن بن مقلة عن سبب قطع يد أخيه فقال: (كان سبب قطع يد أخي كلمةً. كان قد استقام أمره مع الراضي، وابن رائق، وأمرا بردّ ضياعه، ودافع ناس فكتب أخي يعتب عليهم بكلام غليظ، وكنا نشير عليه أن يستعمل ضد ذلك فيقول: والله لا ذللتُ لهذا الوضيع.
وزاره صديق ابن رائق، ومدبّر دولته، فما قام له)( ).
وذكر الذهبي أن ابن النجار ساق فصلاً طويلاً يدلّ على تيهه وطيشه، وكان من ذلك الطيش أنه كان إذا ركب يأخذ له الطالع جماعة من المنجمين، ليأمن المركب والطريق.
وذكر ابن كثير أنه حين عزل في زمن الخليفة الراضي (صودر منه ألف ألف دينار)( ).
وهذا المبلغ وغيره لا نشك في أنه جمعه بطرق غير مشروعة، وله سوابق الرقاع الكثيرة في مجلسين، ولو كانت كلّها تخصك لقضيتُها. فقبل جعفر يده)( ).
ولا شك أن ابن مقلة كان يقضي حوائج الناس، ويدير شؤون وزارته خير إدارة، ولعله في ذلك كان يطمح إلى أعلى من الوزارة، فقد كان يتظاهر أمام من يعرفونه بالعظمة، وعلو المقام، وكان يرى في نفسه المقدرة على إدارة أكبر الأمور، وكان ينظم ذلك شعراً فيقول:
في شامخ من عزّة المترفّع
وإذا رأيت فتى بأعلى رتبة
ما كان أولاني بهذا( ) الموضع
قالت لي النفس العزوف بقدرها
ولعل تلك الآمال هي التي أوردته المهالك. ولو بقي ابن مقلة كاتباً خطاطاً لنال من المجد أكثر مما ناله في الوزارة، والذي نشاهده من خلال سيرته أنه طلب المجد بغير الخط فناله في الخط وسقط في السياسة.
قالوا فيه
لقد أثنى العلماء والمؤرخون على ابن مقلة كخطاط بارع، وفنان مبدع، لكنهم اعتبروه أرعناً في السياسة، وسيءّ التصرف بماله، وما قام به من بذخ وإسراف اشمأزت منه نفوس عارفيه، وضمر له السوء أكثر الذين عرفوه في قصر الخلافة والوزارة. فقد كانت حياته صوراً مختلفة عجيبة، وفيها من المتناقضات والغرائب.
في ذلك تدل على أنه جمع مالاً لا يكاد يحصى.
كما نجد ابن مقلة يتغير عما به من صفات حسنة قبل الوزارة عما آلت إليه الأمور بعدها فغيرته كثيراً. ونسي بعدها أعز أصدقائه الذين كان يأكل الخبز الخشن معهم فقد كان الشاعر جحظة صديقاً له، وبينهما صداقة متينة، ولما أراد جحظة أن يدخل على ابن مقلة بعد أن تقلّد الوزارة لم يؤذن له فقال:
اذكر منادمتي والخبز خشكار
قل للوزير أدام الله دولته
ولا حمار ولا في الشطّ( )طيّار
إذ ليس بالباب يرذون لنوبتكم
وكان يقضي وهو في الوزارة حوائج الناس، ويلبي لهم طلباتهم وحوائجهم، ولا يردّ أحداً، فقد كان جعفر بن ورقاء الشاعر يعرض على ابن مقلة الرقاع الكثيرة في طلبات الناس في مجالسه العامة وخلواته، فربما عرض له في اليوم أكثر من مائة رقعة (طلب حاجة وتظلّم).
وفي أحد المجالس عرض عليه كثيراً من مطالب الناس التي دونوها في الرقاع فضجر ابن مقلة وقال: (إلى كم يا أبا محمد؟).
قال جعفر: على بابك الأرملة والضعيف وابن السبيل، والفقير، ومن لا يصل إليك.. أيّد الله الوزير، إن كان فيها شيء لي فخرّقه، إنما أنت الدنيا، ونحن طرق إليك، فإذا سألونا سألناك، فإن صعُبَ هذا أمرتنا أن لا نعرض شيئاً، ونعرّف الناس بضعف جاهنا عندك ليعذُرونا.
فقال أبو علي: لم أذهب حيث ذهبتَ، وإنما أومأت إلى أن تكون هذه
يقول الثعالبي: (من عجائبه أنه تقلد الوزارة ثلاث دفعات، لثلاثة من الخلفاء، وسافر في عمره ثلاث سفرات، اثنتان في النفي إلى شيراز والثالثة إلى الموصل، ودفن بعد موته ثلاثة مرات، في ثلاثة مواضع، وكان له ثلاثة من الخدم)( ).
وقد خلّده الثعالبي في كلمات كخلود خطه: (خط ابن مقلة يضرب مثلاً في الحسن، لأنه أحسن خطوط الدنيا، وما رأى الراؤون، بل ما روى الراوون مثله، في ارتفاعه عن الوصف، وجريه مجرى السحر)( ).
وقال عنه الذهبي: (الوزير الكبير)( ).
ووصفه الصولي وصفاً دقيقاً فقال: (ما رأيت وزيراً منذ توفي القاسم بن عبيد الله( ) أحسن حركة، ولا أظرف إشارة، ولا أملح خطاً، ولا أكثر حفظاً، وله علم بالإعراب، وحفظ للغة، وتوقيعات حسان)( ).
وتحدث عنه ياقوت الحموي فقال (وهو المعروف بجودة الخط الذي يضرب به المثل، كان أوحد الدنيا في كتبه قلم الرقاع، والتوقيعات، لا ينازعه في ذلك منازع، ولا يسمو إلى مساماته( ) ذو فضل بارع)( ).
وقال أبو حيان التوحيدي: (أصلحُ الخطوط، وأجمعها لأكثر الشروط، ما عليه أصحابنا في العراق فقيل له: ما تقول في خط ابن مقلة؟
قال: ذاك نبي فيه، أفرغ الخط في يده، كما أُوحي إلى النحل في تسديس بيوته)( ).
وفاته
بعد حياة منعمة بعد فقر وحاجة، عاد ابن مقلة ليقضي آخر أيامه في سجن الخليفة الراضي مقطوع اليد واللسان، يعاني من شظف العيش وقساوة الحياة كثيراً، ومات يوم الأحد في العاشر من شهر شوال سنة (328هـ – 940م) ودفن في السجن، ثم نبش بعد زمان وسلّم إلى أهله( ) فدفنه ابنه أبو الحسين في داره، ثم نبشته زوجته المعروفة بالدينارية، ودفنته في دارها)( ).
وذكر الذهبي أنه عاش ستين عاماً( )
بينما قال ابن كثير: توفي وله من العمر ست وخمسون سنة( ).
ووقف على قبره ابن الرومي يبين مكانته في عالم الفكر والقلم، وأن الإبداع هو الخالد، وأن السلطان ومن دونه، والسيف وما فوقه لا يبارون القلم ولا يبلغون مداه.
له الرقاب ودانت خوفه الأمم
إن يخدم القلم السيف الذي خضعت
ما زال يتبع ما يجري به القلم
فالموت، والموت لا شيء يعادله
أن السيوف لها مذ أُرهفت خدم
كذا قضى الله للأقلام مُذ بُريت
ما زال يتبع ما يجري به( ) القلم
وكل صاحب سيف دائماً أبداً
رحم الله ابن مقلة، فقد عاش بين أقرانه غريباً، ومات في غياهب السجن ذليلاً، ولكن ذكره بين المبدعين بقي خالداً.
ابن البواب
... - 423هـ / ... - 1032م
الخط فن جميل، اشتهر به العرب بعد الإسلام، وفاقوا به بقية الأمم، وسبب التفوّق أنهم لم يلجؤوا للتصوير والنحت وعمل التماثيل لتحريم الشريعة الإسلامية ذلك. واشتهروا بالزخرفة والمقرنصات الصاعدة والنازلة، والزخارف الهندسية المختلفة، حتى أصبحت هذه الفنون تحمل اسم الفنون الشرقية، أو الإسلامية. وأصبح الخط العربي عبر مسيرة تطوره في القرون الأولى فناً إبداعياً امتاز به عدد كبير من الفنانين، تحدث عنه ابن خلدون في القرن الثامن الهجري فقال: (واعلم بأن الخط بيان عن القول والكلام، كما أن القول والكلام بيان عما في النفس والضمير من المعاني فلابد لكل منها أن يكون واضح الدلالة… فالخط المجوّد كماله أن تكون دلالته واضحة، بإبانة حروفه المتواضعة، وإجادة وضعها ورسمها)( ).
وقد امتاز الخط العربي عن غيره من خطوط العالم بليونة حروفه وانسيابها ووصلها مع بعضها ووجود حركات فوقها وأسفل منها، مما جعله يمتاز عن غيره في الكتابة والجمال، فنزل القرآن الكريم به، وجوّده الخطاطون بهذه القواعد الثابتة.
وإذا كان الخط الكوفي –على سبيل المثال- يقوم على قاعدة استعمال المسطرة، فقد يجوز أن نكتب به بعض الخطوط غير العربية كالإنكليزية والصينية، لكننا نعجز تماماً أن نطبق قواعد الخطوط الأخرى كالثلث والنسخ والديواني وغيرها على غير الحرف العربي، ومن هنا برزت مواهب الخطاطين والفنانين في إبراز جماليات الخط العربي في خطوطهم الشهيرة.
ابن البواب
خطاط مبدع كبير، وفنان مرهف الحس الفني، والشعور العلمي، عرفه معاصروه فأنزلوه منزلته، وقدّروه حق التقدير، إنه علي بن هلال، أبو الحسن المعروف بابن البواب.
قال عنه الزركلي: (خطاط مشهور، من أهل بغداد، هذّب طريقة ابن مقلة وكساها رونقاً وبهجة)( ).
ورث مهنة أبيه فترة من حياته، فقد (كان أبوه بوّاباً لبني بويه على بيت القضاء في بغداد)( ). وأصبح بعد أبيه بواباً على دار فخر الملك محمد بن علي أبي غالب المتوفى سنة سبع وأربعمائة.
وأخذ عن كبار معاصريه فقد (كتب على محمد بن أسد، وأخذ العربية عن ابن جني، وكان شبيبته مزوّقاً دهّاناً في السقوف. ثم صار يُذهّب الخِتَم وغيرها، وبرع في ذلك، ثم عني بالكتابة ففاق فيها الأوائل والأواخر)( ). حتى كان في الخط من الأوائل ومن كبار خطاطي عصره كما أخذ عن (أبي الحسين بن سمعون الواعظ)( ). وكان يمتاز إلى جانب الخط بالتواضع ومصارحة الآخرين، لإظهار الحقيقة الكامنة.
قال هلال بن الصابئ: (دخل أبو الحسن البتي دار فخر الملك، فوجد ابن البواب هذا جالساً على عتبة الباب ينتظر خروج فخر الملك، فقال له: جلوس الأستاذ في العَتَب، رعاية للنسب، فغضب ابن البواب وقال: لو كان لي الأمر ما مكّنت مثلك من الدخول؛ فقال البتي: حتى لا يترك الشيخ صنعته)( )
أخلاقه ومزاياه
كان ابن البواب إلى جانب نبوغه في الخط صاحب دين وخلق، فقد أثنى عليه معاصروه من المؤرخين ومَن جاؤوا بعده. قال عنه ابن كثير: (قد أثنى على ابن البواب غير واحد، في دينه وأمانته)( ).
كما كان نابغة في غير الخط، فهو يعبّر الرؤيا، وينظم الشعر، ويكتب النثر، ويعظ الناس ويرشدهم، وقد أثنى عليه ياقوت الحموي فقال: (كان يعظ بجامع المنصور، فلما ورد فخر الملك أبو غالب محمد بن خلف الوزير والياً على العراق من قبل بهاء الدولة أبي نصر بن عضد الدولة، جعله من ندمائه، وفي الجملة إنه لم يكن في عصره ذاك النفاق الذي له بعد وفاته)( ).
وهذا يعني أنه كان ورعاً، تقياً، بعيداً عن النفاق والتدليس لأولي الأمر والسلطان.
وكان تواضعه عن حب وإخاء، تدفعه إلى ذلك عقيدة سليمة. حسن المعشر، ليّن الجانب، يهش ويبش لمن يحادثه، شاهده أحد كتّاب الديوان في بعض الممرّات فسلّم عليه وقبّل يده، فقال له ابن البوّاب: الله… الله يا سيدي ما أنا وهذا؟
فقال له: لو قبّلتُ الأرض بين يديك لكان قليلاً.
قال: لِمَ؟ ولِمَ ذاك يا سيدي؟ وما الذي أوجبه واقتضاه؟.
قال الكاتب: لأنك تفرّدت بأشياء ما في بغداد كلها من يشاركك فيها، منها الخط الحسن، وأنه لم أرَ في عُمُري كاتباً من طرف عمامته إلى لحيته ذراعان ونصفٌ غيرَك.
فضحك ابن البوّاب منه وجزاه خيراً، وقال له: أسألك أن تكتم هذه الفضيلة عليّ ولا تكرمني لأجلها.
قال الكاتب: ولِمَ تكتم فضائلك ومناقبك؟
فقال ابن البواب: أنا أسألك هذا.
وكانت لحية ابن البواب طويلة جداً)( ).
حقاً لقد كان ابن البواب رحمه الله ورعاً تقياً، وصفه الخطيب البغدادي فقال: (كان رجلاً ديّناً)( ).
نبوغه في الخط
كان ابن البواب صاعقة عصره في الخط، جودة وتحسيناً. وهو الذي ورث إبداع ابن مقلة وحسّنه، فكانت لوحاته الخطية آية في الجمال. شاهد أبو عبيد البكري الأندلسي صاحب التصانيف خطّ ابن مقلة فأنشد:
ودَّت جوارحه لو أصبحت مُقَلا
خط ابن مقلة مَن أرعاه مقلته
فكيف لو شاهد البكري خطوط ابن البواب التي نالت إعجاب معاصريه واللاحقين؟! وفاقت خطوط ابن مقلة؟!!
وقد ذاع صيته، واتسعت شهرته.
قال عنه ابن كثير: (وأما خطه وطريقته فيه فأشهر من أن ننبه عليها، وخطه أوضح تعريباً من خط أبي علي ابن مقلة، ولم يكن بعد ابن مقلة أكتب منه، وعلى طريقته الناس اليوم في سائر الأقاليم إلاّ القليل)( ).
ولكثرة الكُتّاب والخطاطين في عصره فقد جهل الأعيان مكانة هذا الفنان خلال حياته، فلما مات برز اسمه، ولمع نجمه، واعتدّ به الفنانون والمبدعون، واعتبروه علماً من أعلام الخط، وخليفة لابن مقلة، حتى قال عنه الذهبي: (ولم يعرف الناس قدر خطه إلاّ بعد موته، لأنه كتب ورقة إلى كبير، يشفع فيها في مساعدة إنسان بشيء لا يساوي دينارين، وقد بسط القول فيها، فلما كان بعد موته بمدة، بيعت تلك الورقة بسبعة عشر ديناراً)( ).
ويبدو أن هذه اللوحة الفنية أصبحت أثراُ ثميناً، فقد بيعت مرة أخرى بخمسة وعشرين ديناراً( ).
ولقد شهد أبو العلاء المعري بفضيلة خط ابن البواب، حين ذهب إلى بغداد ونزل الكرخ، فلما طال مقامه حنّ إلى المعرة وأهلها فقال:
بِجَارِي النُّضار( ) الكاتبُ ابنُ( ) هلال
ولاح هِلالٌ مثلُ نونٍ أجادَها
وحين يرسم الفنان لوحة، أو الكاتب كتاباً ولا يتّمه؛ فإن اللاحقين يعجزون عن إتمام تلك اللوحة أو الكتاب كما أراد البادئ، فقد ذكروا أن ابن مقلة كتب مصحفاً في ثلاثين جزءاً، وفُقد جزء منه فأتمته ابن البواب بخطه الجميل الذي لا يكاد يختلف عن خط ابن مقلة، وفوق ذلك فقد جلّده تجليداً لا يكاد يختلف عن تجليد الأجزاء التي خطها ابن مقلة، وهذا من حُسن خطه وأناته وصبره، وحسن اختياره لنوع الورق والخط والتجليد( ).
ويبدو أن أخاً له عمل في الخط أيضاً وذاع صيته، وشُهر بأبي علي بن البواب فظن الكثيرون أنه هو المقصود بنبوغ الخط فأشار إلى ذلك بقوله: (إن صاحب الخط المنسوب المشهور ليس أبا علي المذكور، وإنما هو أخوه عبد الله الحسن…)( ).
وقد كان إبداع ابن البواب في الخط وجماله حديث الناس في مجالسهم، بهر العقول، وشنّفت إليه الآذان، وحملقت فيه المقل، فقد مدح أحد الشعراء كتاباً، فأُعجب بهذا الشعر أحد فقهاء حلب، (وحينما مرّ ابن خلّكان بحلب سألوه عنه:
يدُ ابن هلال عن فم ابن هلال
كتاب كَوَشْي الروَّض خَطَّت سطوره
قال ابن خلكان: فقلت له: هذا يقول: إن خطّه في الحسن مثل خط ابن البواب وفي بلاغة ألفاظه مثل رسائل الصابئ، لأنه ابن هلال أيضاً)( ).
آثاره
اشتهر ابن البواب بنسخ المصاحف، والعناية بإخراجها، والتأنّق بجمالها، وصفه البطليوسي شارح سقط الزند بالوراقة فقال: (كان ورّاقاً يكتب المصاحف)( ).
ولعله اتخذ الوراقة مهنة، وقد (نسخ القرآن الكريم بيده أربعاً وستين مرة، إحداها بالخط الريحاني لا تزال محفوظة في مكتبة "لاله لي" بالقسطنطينية)( ).
ويوجد (بمكتبة آيا صوفيا ديوان الشاعر العربي الجاهلي سلامة بن جندل بخط ابن البواب)( ).
وترك لنا ابن البواب إلى جانب خطوطه الرائعة والمصاحف الكثيرة التي خطّها مجموعة كبيرة من الشعر الذي لم يبلغ به حدّ الشعراء المجيدين( ). ففي شعره عيوب كثيرة سترها جمال خطه كما قال ياقوت الحموي.
وتذكر دائرة المعارف الإسلامية لابن البواب أنه كان (مبتدع الخط ((الريحاني)) والخط ((المحقق)) كما أسس مدرسة للخطوط بقيت إلى زمن ياقوت المستعصمي)( ).
وما تأسيس هذه المدرسة إلاّ لأنه أكبر خطاطي عصره، وهو الذي هذّب خطوط سابقيه إلى الصورة والشكل الذي ظهر بهما خطه.
وإلى جانب الخط فقد برع في الشعر، الذي شرح فيه طريقة الخط، وسمات الخطاطين، وصناعة الحبر… وغيرها. وذكر ابن خلدون قصيدة له في أصول الخط وجماله وكماله ذكرها في مقدمته لينتفع بها من يريد تعلّم هذه الصناعة. من هذه الأبيات:
ويروم حسن الخط والتصوير
يا من يريد إجادة التحرير
صَلْبٍ يصوغ صناعة التحبير
أعدِد من الأقلام كلَّ مثقّف
عند القياس بأوسط التقدير
وإذا عَمَدتَ لبرِيهِ فتوخَّه
بالخَلِّ أو بالحِصرم المعصور
وأَلِقْ دواتك بالدخان مُدَبِّراً
مع أصْفَر الزّرنيخِ والكافور
وأضف إليه قفرةً قدْ صُوِّلت
الورق النَّقي الناعم المخبور
حتى إذا ما خُمِّرت فاعمد إلى
ما أدرك المأمولَ مثل صبُور
ثم اجعل التمثيلَ دأبَك صابراً
في أوّل التمثيل والتشطير
لا تخْجَلَنَّ من الرَّدي تَخطُّهُ
ولرُبَّ سهلٍ جاء بعد( ) عسير
فالأمر يصعب ثم يرجع هيِّناً
أقوال العلماء فيه
أشاد العلماء والأدباء والخطاطون بابن البوّاب وخطوطه كثيراً وبيّنوا مكانته بين معاصريه، وأثنوا عليه بما هو أهله:
قال الخوارزمي: (كان في صنعة الخط آية، وسمعت بعض الحكماء السيّاحة يقول: إنه أحد منوِّعي الخط، وأصول هذه الخطوط المتداولة بين الناس من طرائقه)( ).
قال ابن خلدون:( الكاتب الشهير)( ) ( 188)
وقال ابن خلكان: (لم يوجد في المتقدمين ولا المتأخرين من كتب مثله، ولا قاربه، وإن كان أبو علي ابن مقلة أول من نقل هذه الطريقة من خط الكوفيين، وأبرزها في هذه الصورة، وله بذلك فضيلة السبق، وخطه أيضاً في نهاية الحسن، لكن ابن البواب هذّب طريقته ونقّحها وكساها طلاوة وبهجة)( ).
وقال ياقوت الحموي: (صاحب الخط المليح، والإذهاب الفائق… كان في أول أمره مُزَوِّقاً يُصوِّرُ الدُّوْر، ثم صوّر الكتب، ثم تعاطى الكتابة ففاق فيها المتقدمين، وأعجز المتأخرين)( ).
وقال بطرس البستاني: (لم يوجد في المتقدمين ولا المتأخرين من كتب مثله ولا قاربه، وأقرّ له الجميع بالسابقة وعدم المشاركة في حسن الخط)( ).
كما أشاد به سائر العلماء الذين جاؤوا بعده، ودوّنوا ذلك في مؤلفاتهم.
وفاته
أفل نجم هذا الفنان المبدع يوم السبت ثاني جمادى الآخرة سنة (423هـ-1032م) ودفن بمقبرة باب حرب في جوار الإمام أحمد بن حنبل. ووقف على قبره الشريف المرتضى يقرأ قصيدة يقول في مطلعها:
والدهر إن همَّ لا يُبقي ولا يذر
مِن مثلها كنتَ تخشى أيها الحَذِرُ
لم يُحْمَ منه على سُخْطٍ له البشر
رُدِّيتَ يا ابن هلال والردى عَرَضٌ
بأن فضلك فيه الأنجُمُ الزُّهُر
ما ضرَّ فقدك؟ والأيام شاهدة
من المحاسن مالم يُغْنِهِ المطرُ
أغنيت في الأرض والأقوام كلهم
وللعيون التي أقْرَرْتَها سَهَرُ
فللقلوب التي أبهجتها حَزنٌ
ولا لليل إذا فارقَته سَحَرٌ
وما لعيش إذا ودَّعْتَهُ أرَجٌ
مسلوبة منك أوضاحٌ ولا( ) غُرَرُ
وما لنا بعد أن أضحت مطالعنا
ورثاه كثيرون شعراً منهم من قال:
وقَضَتْ بصِحَّة ذلك الأيام
استشعر الكُتَاب فقْدَكَ سالِفاً
أسفاً عليك وشُقَّتِ( ) الأقلام
فِلذاكَ سُوِّدت الدُّوِيُّ كآبة
وقال آخر:
فكيف لو كنتَ ربَّ الدار( ) والمال
هذا وأنت ابن بوّاب وذو عَدَمٍ
رحمة الله وأجزل ثوابه، وتغمده برحمته.