(1)
أمّا المطاردةُ فبرزت بصورةٍ حَرَكيّة، يطارِدُ سيفُ الدولةِ قوّاتِ الرومِ فيرمون بأسلحتهم للإعاقة، ولكنَّ سيف الدولة يهزمهم.(142)
فرموا بما يَرْمُون عنه وأدبروا يطـؤون كُـلّ حَنّيِةٍ مِرنْانِ
يغشاهمُ مَطَرُ السَّحابِ مُفَصَّلاً بمثقفٍ ومُهَنّدِ ومثقف وسنِان
(2)
أمّا حِصارُ القلاعِ فأطالَ مُدَّتَهُ حَوْلها فَقَذَفَتْ فيها، واستسلمتْ لسيفِ الدولة بأسلوب تشخيصي نفسي ذليل:(143)
تَمَلُّ الحُصونُ الشُّمُ طُوْلَ نِزالِنا فَتُلْقِي إلينا أهلها وتَزْولُ
(3)
وأمّا نَصْبُ الكمائنِ فكان بالخيلِ للايقاعِ بالعدو ومفاجأتهِ، وفي وادٍُ يُوقَعُ الخسائرُ فيه:(144)
وَهُنَّ مَعَ الغِزلانِ في الوادِ كُمَّنٌ وَهُنَّ مع العِقبانِ في النِّيقِ حُوّمُ
(4)
وأمّا بناء القِلاع والتحصيناتِ، شأنُهُ فِي بناء قلعه الحَدَثِ الحمراء، فيرفعُ السُّورَ لِيَصُدَّ الرّيح الهوجاء، وَيُفْزِعُ لِعُلوِّهِ الطير:(145)
فَأَضْحَتْ كَأَنَّ السُّوْرَ مِن فَوْقِ بَدْئِهِ إلى الأرْض قَدْ شَقَّ الكواكبَ والتُّرْبا
تَصُدُّ الرِّياحَ الهُوْجَ عنها مَخافـةً وَتَفـْزَعُ فنِْها الطّيـرُ أَنْ َيلْقُطَ الحبّا
(5)
أمّا اجتيازُه الأنهر (146)فَبِخَيْلِهِ السابحاتِ مؤنّثا إياها، على أنّها مشخصةٌ عاقلة:(147)
فَهْنَّ مَعَ السِّيدان في الَبرِّ عُسَّلٌ وَهُنَّ مَعَ النِّينانِ في الماءِ عُوَّمُ
وقوله:(148)
تَجَفَّلُ الخَيلُ عَنْ لَبّاتِ خَيْلِهِـم كَمـا تَجَفَّلُ تَحْتَ الغارةِ النَّعَمُ
(6)
ومن فنونِ القتالِ الالتفاتُ المزدوجُ على الخصمِ بجناحي هُجوم، بجيش سيف الدولة:(149)
ضَمَمْتَ جَناحيهم على القلب ضَمّةً تموتُ الخوافي تَحْتَها والقوادم
(7)
والإحاطةُ بالعدو فَنٌّ من فُنونِ الحربِ التي صورها الشاعرُ، وهي عمليةُ "التطويق" في صورةٍ تَمثيليةٍ، كأَنَّها التقاءُ الهُدْبِ بالهُدْبِ، وينتصر على الدُّمُسْتُقِ في حَركتِهِ العسكرّيةٍ هذه(150):
مَضَى بَعْدَما ألتفّ الرّماحانِ ساعةً كَمَا يَتَلّقى الهُدْبُ في الرَّقْدَةِ الهُدْبا
(8)
ومن فنون القتال "التستر"عن الرّمايةِ بالشجر(151):
فلا سقى الغيثُ ما واراه مِنْ شَجَر لو زالَ عَنْه لَوَارتْ شَخْصَهُ الرَّخَمُ
(9)
والتمويهُ فن من الحرب، يتموههُ الفارسُ والفَرَسُ معا، فيبدوان فـي هيئةٍ واحـدة:(152)
لَها في الوغى زِيُّ الفوارسِ فَوْقَها فَكُلُّ حِصانٍ دارعٌ مُتَلَثِّمُ
(10)
ومن فنونِ الحربِ توظيفُهُ الحرب النفسيةَ بصورةٍ لافتة، ومصطَلَحُها اليومَ "مجموعةٌ أعمال تَستهِدفُ التأثيرَ على أفرادِ العدوِّ، بما فيهم القادةُ والأفرادُ غيرُ السياسيين، وتخلُقُ تصوّرا ما لدى العدوّ،أو نفيَ تصوراتِ ما عنده، عن طريق الدّعايةِ أو عملياتٍ عسكريةٍ استعراضيةٍ والتنسيقِ بين العملِ العسكريِ والدبلوماسي لِخَلْقِ تصوراتٍ معينّةٍ لأحداثِ الفوضى والبلبلةِ عند العدوّ "(153)، فها هو ينقضُ مزاعمَ القبائلِ الثائرةِ على سيفِ الدولة، فَيَعُدُّ خروجها عليه، إسخاطا لله عزَّ وجلَّ، فلنتركْهُ يتساءلُ بحربهِ النفسية وبأسلوب دعائي، برأي من انقادت إليه قبيلة عقيل؟ ألِلْمَوْتِ والهلاك؟(154)؛ وذلك لأنَّها قبائلُ وإنْ كانت قويةً، فإنها ضعيفةٌ أمامَ سيفِ الدولة، الذي لاشَكّ فيه سيهزِمُها، فتشمتُ بها القبائلُ الأخرى؛ ذلك لأَنَّ سيفَ الدولةِ هَزَمَ قبائلَ أقوى منها، وهو أسلوبٌ يَجْمَعُ بين إضعافِ عزيمِة الخصم، ورفعِ معنويةِ ممدوحِهِ، مستنداً إلى سِجلِّهِ الحربي؛ فقد أَذَلَّ فيما مضى قبائلَ عزيزةً، فما بالك بهذه القبيلةِ المتمرّدة.(155)
وَسَوْقَ عَليٍّ مِنْ مَعَدٍّ وَغَيِْرها قبائـلَ لا تُعطي القُِفيَّ لِسَائِقِ
ثم يُحاوِلُ أنْ يُزِعْزِعَ ثِقةَ القبائلِ الثائرةِ بقائِدها، فَيَشُنُّ حربَهُ النفسيّةَ على واسطة نقلهِ "الناقةِ" التي لا تصلحُ للحربِ أصْلا، كما يَشُّنُها على فكرتِهِ الباطلِة في ادّعائِه حَقَّ الإمامِة، وبصورةٍ ساخرة:(156)
وَجَيْشَ إمَـامٍ علـى ناقـةٍ صحيحِ الإمامِة في الباطلَ
ثُمّ يُوسِّعُ حربَهُ النفسيّةَ، على الثوراتِ الداخليِة، فَيَخْلُقُ تصوراتٍ خطيرةً على أمنِ الدولةِ الإسلامية، تشغلُ سيفَ الدولةِ عن حروبهِ مع الرومِ لِرَدْعِ خطِرهم ودَرْئِه، وهو توجُّهٌ وطنيٌّ كما ترى، لِكنَّهُ يَُغلِّفُهُ بحربٍ نفسيةٍ يحاولُ أن يُثبِّط من معنوياتِ المقاتلين ضِدَّ سيفِ الدولةِ أولا ويرفعُ ثانيا من معنوياتِ سيفِ الدولةِ وجيشِهِ من خلال عَرْضِ مشاهدَ، من سِجلِّه الحربيِّ المشرِّف، الذي أذلَّ العدوَّ على قُوّتِه، بقوةٍ تحويلية؛ تَرَكَ الرومَ ذليلةً، فتنهضُ صورةٌ متخفيةٌ من بيِن السطورِ، تُشْعِر المتلقي أنَّ حَرْبَ القبائلِ فاشلةٌ يكادُ يُحْكَمُ عليها من الآن:(157)
ولا شَغَلوا صُـمّ القّنـا بُِقلوبِهـِمْ عن الرّكز لكن عن قلوبِ الدماسق
ألم يحذروا مَسْخَ الذي يَمْسَخُ العدا وَيَجْعـَلُ أيدي الأُسِْد أيدي الخَرانق
وفي مشهدٍ نفسي آخر، يَعْرِضُ مَشْهدا دمويَّا نفسياً، لقبائلَ ثائرةٍ من قبلُ، وهم متساقطو الرؤوسِ تَتَعثَّرُ أَرْجُلُهم بها في موقفٍ مُروِّع، وقد تركَ المشهدُ مشهداً تتثاغى فيه شيِاهُهم، وتتراغى معها إبِلُهم، بعد أن افتقدتْ أهلها، بصورةٍ صوتيةَ مِعواء:(158)
مَضَوا متسابقي الأعْضَاءِ فيه لأَرْءوسِهم بِأَرْجُلِهِمْ عِثارُ
يُبَكِّي خَلْفَهُـمْ دَثـْرٌ بُكـاهُ رُغـاءٌ أوْ ثُؤاجٌ أو يَعارُ
ثم يُذكذرُهم بمشهدٍ آخر، يقطرُ أسى، يَعزفُ لهم أنّةَ حُزْنَ على مصير السبايا العربيات منهم –وهو الشرف التليد الذي يهتم به العربي منذ كان وحتى الآن- وقد أرْدِفْنَ سبايا راكباتِ، بعد أنْ دِيْسَتْ أطفالٌ صغارٌ تحت سَنابكِ خيلِ ممدوحه سيف الدولة:(159)
وَأرْهِقَتِ العذارى مُرْدفَاتٍ وَأوْطِئَتِ الأَصَيْبِيَةُ الصِّغارُ
ولكنه وهو يثير هذا الشَّجى النفسيَّ، يَعْلَمُ أنّه يثيرُ حفيظةَ العربي ليثأرَ، أو رُبّما لِيَنْقُمَ على من كانَ سبباً فيهِ، لكنَّه لدرايتِه بالنَّفْس المتلقيّة، وحسنِ خبرته بها، يَعْرِضُ مشهداً نبيلاً لسيِف الدولة، فهو بدلا من قَتْلِهِ الأسرى وهَتْكِهِ أعراضَ السبايا، يَفكُّ أَسْرَهم، ويعفو عنهم، ويعيدُ السبايا العربياتِ، معززاتٍ دون مَساسِ بِهِنَّ، ولا ريبَ في أنّ هذا الموقفَ الانسانيَّ يَسْتَلُّ سَخيمةَ النفوسِ الثائرة، فيغيِّرُ من رأيِها في سيفِ الدولة، ويرفعُ من شأنِ ممدوحِهِ، ويحاولُ توحيدَ الكلمِة ورصَّ الصفوفِ العربيةِ، وينبذُ تَفَرَّقَها، وبالتالي يدعوها إلى تدبّرِ أمِرها مَليّا، قبل أنْ تُفَكِّرَ في أمِر الخروج عليه، ولعلّها تصلحُ أسلوباً ناجحاً من الأساليب المعاصرةِ في الحرب النفسية(160):
فَعُدْنَ كَما أُخِذْنَ مُكرَّماتٍ عَلَيْهِنَّ القَلائـدُ والسِّـلابُ
وُيذكِّرُّهمُ بمشهدٍ نبيلٍ آخر لسيفِ الدولة الذي يرفعُ السيفَ عن أعناقهم لِما للنّسب المشترك، وحقّ الجوار عليه من حقّ:(161)
لَهُمْ حَقٌّ بِشْرِكِكَ في نِزارٍ وأدنى الشِّرْكِ في أَصْلٍ جِوارُ
وفي موقفٍ نفسي آخر؛ يشحذُ هِمّةَ سيفِ الدولة، لِئلا ينخذلَ عن هدفهِ السامي، في قراعِ الرومِ على كثرةِ ما يرى من تعاونِ المسلمينَ مع المشركينَ الرومِ، إمّا لِعَجْزِهم أو لِجُبْنِهم، فيوظّف (أل) التعريف من طاقةِ اللغة، لَِيكْشِفَ صورةَ الحشدِ المتعاونِ ضِدَّهُ، فيعرِّفُ المسلمين، يتعاونون مع "المشركين" ولو نَكَّرَ المسلمين- وهو قادر على ذلك والوزن لا ينكسر، وهو في خدمته، على "البحر المتقارب" لما أعطت دلالةً مكثفةً على نوع التحدّي المشتركِ الذي يواجُهه ممدوحُه المتمّيزُ على مقارعة الخصوم المسلمين والمشركين معا، ومع ذلك يقارعُهم وهو في أحْلَِك الشدائِد، لأنَّهُ واثقٌ بنصر الله تعالى، ركيزتهِ الأولى التي عليها يعتمدُ، أمّا غيرُه من المسلمينَ فأبرَزَهم جبناءَ، عجزَّا، كأنهم دانوا بدين النّصرانية فيقول:(162)
أرى المُسلمِين مع المُشركين إمـا لِعَجْزٍ وإمـا رَهَبْ
وأنتَ مـع اللهِ فـي جانبٍ قليلُ الرُّقاد كثيـرُ التّعب
كَأَنَّـكَ وَحْـدَكَ وَحـَّدْتَـهُ ودانَ البّريةُ بآبـنٍ وآبْ
ولعل الصورة الموسيقية التي في البيت الأول تعادل "التدوير" الممتد بين الشطرين تعاون المسلمين مع المشركين التي افرزتها أل "المسلمين" تعاونا عاما ممتدا غير محدد.
أما حربه النفسية على الروم فأشد وأقوى، فها هو يبرزهم حشودا مصممة على إبادة المسلمين واجتياح قلعة الحدث وهدمها، ولهم دورهم الاستخباري في جمع المعلومات الدقيقة عن المسلمين كما أشرت إليها من قبل، ومع ذلك يهزمون.
ولَعَلَّ من أبرزِ أدوارِ الشاعرِ في حربهِ النفسية، أن يُوظَّف نفسه موجّها معنوياً لجيش سيف الدولة في هزيمته وانتصاراته، لردّ اعتبارِ جيشهِ وقائدِه في الأولى، وشحذِ هِمّتِهم لمقارعة الروم المتحشّد في الثانية.
ففي هزيمةِ سيفِ الدولة يهِّونُ عليه أمرَها حتى لا ينهارَ معنويا، فيذكر أَهمَّ أسبابِها، وهي خِيانَتُهم سيفَ الدولة، وتشاغلُ المسلمينَ في الغَنائم، وأَمّا أسرى العرب فخساسُ القومِ وجبناءُ، لأِنِهَّم اختفوا بين جُثَثِ القتلى الروم، وخسائرُ المسلمين تنقيةٌ للجيِش من سِفلتِهم وأراذِلهِم، وأَسرُهم جزاؤهم:(163)
قُلّ للدَمُسْتُقِ إنَّ المسلمينَ لكم خانوا الأميرَ فجازاهم بما صنعوا
وَجدتموهم نيِاما فـي دمائِكمُ كـأنَّ قتـلاكم اِيـّاهـم فَجَعـوا
لقد أرادَ الله سبُحانَه تصفيةَ الجيشِ من خِساس الجند فَخَلَّصَهُ من أراذلهم:(164)
وإنّما عَرَّضَ اللهُ الجنودَ لكم لكي يكونوا بلا فَسْلِ إذا رَجَعوا
فألقى الشاعرُ اللومَ على الجُند، لا على القائدِ سيفِ الدولة، الذي يَدينُهُ معاصِرُه المؤرخُ ابنُ مسكويه، ويعزو سببَ الفشلِ إلى إعجابه برأيه، إذ لم يكن يقبل رأيا ممن أشير عليه بتجنب الدّربِ التي خَلفْه، ونصحوهُ بالعودةِ إلى طرسوس معهم فأبى، لكي لا يقالَ إنه أصاب برأي غيرِه، فانهزم، وتخلّص هو و(300) ثلاثمائِة رجلٍ بعد جَهد وَمَشَقَّة وهذا سؤ رأي من يجهل آراء الناس العقلاء(165).
وإذا صحَّ الخبرُ كما يرويِه ابنُ مسكويه كاتبُ ابنِ العميد- وربما كان ذا غايةٍ في دَرْجِ الخبر- إذ دأبَ على الإهتمامِ بالقائد وسماتِه، أمّا اهتمامُه بصورةِ الجُند فقليلةٌ على ما أَشَرْتُ من قبل- فَلَهُ عُذُره؛ إذ إنّ القائَد نجا ونجا الشاعرُ معه، وما عليه ألا يشحذَ هِمةَ قائدٍ مُنْهَزِمٍ، دون أن يعاقبه على هَزيمتِهِ وبشعره مرتين، وهو لا يجرؤ أصلا على نَقْدِهِ وقد صَحِبَهُ في غير معركةٍ من جهة، ولأنَهُ يشحذُ هِمَّتَهُ ليِنتقمّ مِمّن ظَفِرَ به من جهةٍ أخرى، وعليه فأرى أن الشاعرَ حقّقَ من الناحيةِ النفسيةِ هدفيه هذين، فها هو من جهة يُثني على شجاعتهِ، وقد رآه عيانا في أتون المعركة:(166)
وما حَمِدْتُكَ في هَوْلٍ ثَبَتَّ بِهِ حتى بَلَوْتُكَ والأبْطالُ تَمْتَصِعُ
ومن جهةِ أخرى ينفخُ فيه روحَ الجِهاد، ليثأرَ من هزيمته بعد أن بلغَ سيفَ الدولة خبرٌ عن تحشّد الروم بأربعين ألفاً، بعد ثلاثِ سنوات من هزيمته، فتهيَّبهم جيشُهُ، فطلب سيفُ الدولة من شاعِره أن يُذكيَ رُوحَ الحماسِة فيهم، فلبّى أوامرَه فنفخَ فيهم روحَ الحمية بصورٍ شتى منها: أنّ جَيْشَ سيفِ الدولةِ قد تحشَدَ بِعُدَتهِ الكاملِة وأعدَّ للحربِ عُدَّتها:(167)
وَخَيْلٍ حَشوناها الأَسنَّةَ بَعْدَما تَكَدَّسن من هَنَا وَمِنْ هَنّا
ومنها أنَّ الحربُ كَرٌّ وفَرٌّ، والرومُ يدركون ذلك تماما، والمسلمونَ أصحابُ روحٍ قتاليةٍ عالية:(168)
وقد عَلِمَ الرومُ الشَّقيّونَ أَنْنا إذا ما تَرَكْنا أرضَهم خَلفْنَا عُدْنا
ومنها أَنّنا "بضمير الجمعِ المتكلم" نرتدي للحرب عُدَتها، ونتهيأ لها سيوفا ورِماحا، فيضفي على حربهِ النفسيةِ طابعا خاصا؛ لا شتراكهِ الشخصيِ معهم في المعركة التي تهيّأ لها:(169)
وأَنا إذا ما الموتُ صَرَّح في الوغى لَبِسْنا إلى حاجاتِنا الضَّرْبَ والطَّعْنا
ومنها أنَّ النفس الإنسانية، هي صاحبةُ القرارِ في الخوفِ والأمن، فتخافُ إذا تخّيلتِ الخوفَ، أو يُرّبَطُ جأشها فترى في الحرب أمنا:(170)
وما الخوف إلا ما تخوفه الفتى وما الأمنُ إلاّ ما رآه الفتى أمنا
ثم ينقلُهُم بحربِه النفسيِة إلى مشهدٍ حربي، كانَ من سجلَهم الحربي السابق مع الروم، إذْ احرزوا نصرا، وأرهرقوا فيه دمَ الروم، التي بَرَدَتْ في يومِ اللُّقان، وفي صورةٍ لونية لمسيةٍ ممتتشجةٍ بحماسةٍ وتصميم على متابعة القتال، موظفاً التضادّ الذي يجمعُ بين شيئين متطابقين، قَلّما يجتمعان الا "بأمرنا" موظفاً ضمير الجمع المتكلِّمَ المنفصلَ، الذي أفهم منه اعتمادَهم على أنفسهم، لا على سِواهم في تحقيق الهدف(171):
فَقَدْ بَرَدَتْ فَوْقَ اللُّقانِ دماؤهم وَنَحْنُ أناسٌ نُتْبِعُ الباردَ السُّخّنا
مُوظِّفاً فعلاً مضارعا مستمرّاً متعدّيا يَحْمِلُ معه حربَه النفسيةَ المصممةَ على القتال، مُستنهِضا فيه الهِممَ العسكريَّة العالية.
7."صور من الأبعاد المكانية والزمانية"
وَيُجلّي المتنبي صورةَ المحاربِ بترسيمِه الابعادَ المكانيةَ والزمانيةَ للوقائع الحربية، وهذه الأبعادُ تُعَدُّ ظروفاً تَحْدُق بالاحداثِ أو تتغلغلُ فيها، وتتفاعلُ معها وبها، ولا أَحْسَبُ تصويرا فنَّيا يُتَخّيلُ بمعزل عنهما.
لَقَدْ تلفَّتَ المتنبي إلى الأبعاد المكانيةِ كثيرا في شعره، ولا سِيّما الثغور التي أكتفي بتجلية شرائح تصويرية منها، إذ أحْسَبُ أنَّ القليلَ من الإشارةِ إليها في الدلالة يغني عن كثيرها.
فَلِلثغور معنى لغويٌّ واصطلاحيٌّ، وفيها دروبٌ كان يَتَوجَهُ الجيشُ المهاجمُ عربيا أو روميا منها وإليها، وأشار كثير من الّلغويين ومعاجمِ البلدان والبَحَثِة المحدثين إلى هذه الثغور، والدروبِ من خلالها، والتي يُمْكِنُ أن ألخِّصَ بأسطرٍ هذا المصطلح لأهمية تعيّين المكان فيه كظرفٍ يُجلّي بعضَ أبعادِ الصورة الحربية.
فالثغَرُ لغةٌ: هو كُلُّ مَوْقعٍ من أرضِ العدوّ، أو موقعِ المخالفةِ من أطراف البلاد مما يلي دارَ الحرب وهو ثلمة يُؤتى مِن قِبَلِها.(172)
فالثغور آصطلاحا: خطٌ طويلٌ من القِلاعِ وهي حدودٌ بين المسلمينَ والروم، في أيام بني أمية، وبني العباس، تتألّفُ من سلسلتي جِبال طوروسَ، وطوروسَ الداخلية، وكانت تُعَّين حُدودُها ويحميها خَطّ من القِلاع، وتمتدُّ من مَلَطْيَةَ على نهرِ الفرات إلى طَرْسُوسَ بالقربِ من ساحلِ البحرِ المتوسطِ الشماليِّ الشرقيّ، وتنقسم ثلاثةَ أقسام: الثغورُ الجزريةُ وهي الشَّمالية الشرقّيةُ والثغورُ الشاميَّةُ، وهـي الجنوبية الغربيةُ والثغور البكرية وعاصمتها آمد ثغورا بالعمـق:(173)
ومن خلال الثغورِ دربان: أحدُهما دَربُ الحَدَثِ، في الثغور الجزرية، يَصِلُ إلى خَرْشَنةَ، ودَرْبُ السَّلامِة في الثغور الشامية ومحوره من طرسوس إلى القسطنطينية(174).و(175)، وبعد هذه الإشارةِ التاريخية إلى مصطلح الثغور ينقلُنا الشاعرُ إلى مشاهدَ حربيةٍ وَقَعَتْ في الثغور، ومن خلالِها، فَيَحْمِلُنا على تخّيِل مكانِ الحدثِ، بعد أن نُعيّنَ أماكنَها على الخرائِط فنتخَّيلُ صورةَ الأحداث فيها.
فها هو الشاعر يَعْرِضُ هجومَ الدُّمسْتقِ الرومي، من مَرْعَشَ باتجاه الثغور
فنتخّيل اتجاهَ هجومِه أوّلا من الشَّمال الشرقي إلى الجنوبِ الشّرقي، في محور مَرْعَش- الحَدثِ في الثغور الجزرية، ولكنه يهزم(176)، فيقول(177):
أتى مَرْعشاً يَسْتَقْرِبُ البُعْدَ مُقْبِلا وأدبرَ إذْ أَقْبَلَتْ يَسْتَعْذِبُ القُرْبا
وبالبُعدِ الثاني يُحدَّدُ مسرحَ عملياتِ خيولِ سيفِ الدولة، وهو يُغيرُ بها على اللُّقان (شماليَّ الثغور الجزرية) إلى واسطٍ في أرضِ العراق(178): كما حدَّدَ قوس مسؤليتها وهي تحشد بين نهر الفرات ودمشق في بيت تتجلى الصورة المكانية فيه:(179)
يُغيرُ بها بين اللُّقان وواسطٍ وَيُرْكِزُها بينِ الفُراتِ وَجِلَّقِ
وللبعد الثاني دوره في تجليهِ محورِ هجوم سيفِ الدولة، في ثغور الروم، معه سيرَ غزوتِهِ واتجاهَها، فيمكَّنُ الباحثَ منَ أنْ يدرسَ إذا أراد طبيعةَ المعركةِ التي خاضَ الحربَ عليها، شأنُهُ في هجومهِ على مَلَطْيَةَ الثغريّة، باتجاه قَباقبَ غرباً ثم يَكُرُّ راجعا باتجاهِ نهرِ الفُرات شرقا،(180) :(181)
وكَرَّت فَمَرَّتْ في دماءِ مَلَطْيَة َ مَلَطْيـَةُ أُمّْ للبنيـنَ ثَكُـولُ
وَأَضْعَفْنَ ما كُلَّفْتَهُ مـن قُباقِبٍ فأضحى كأنَّ الماءَ فيهِ عَليلُ
وَرُعْنَ بنا قلبَ الفُراتِ كأَنّمـا تَخِرُّ عليهِ بالرَّجـالِ سُيـول
الا ترى كيف تُجِلّى الأبعادُ المكانيةُ صورةَ الحرب؟، فتنقُلنا إلى محورِ القتال، اذ تُشخَّصُ مَلَطْيَةَ ثَكُولَ قتلاها، بصورةٍ دمويّة مِنواحٍ، وتجلّي صورة سيف الدولة مُتّجِها إلى قُبَاقِبَ، ويجتازُ نَهْرَها، فندركُ منطقةَ المناورة التي حَدَثَ بها الهجوم، وبعدَ أنْ يُنْجِزَ مَهَمّتَهُ يعودُ ، يرافِقُهم الشاعرُ، بدليلِ قولهِ "بنا" وقد اشتركَ الشاعرُ في الحرب غير مَرّة، ألا ترى العناصرَ الضروريةَ التي لَوَّنَها المكانُ، فأضفى عليها أبعادا وَلْنََضْرِبْ مثلًا أخيرا على تحديدِهِ مِحْوَرَ الهجومِ، فنفهمُ بِمُصْطَلَح "الدّرب" الذي كان يَعني في عصرِه "مِحْوَرَ طرسوس" القسطنطينية- أَنَّ مكانَ القتالِ كانَ في الثُّغور الشّاميّة وَعَبْرِها.(182)
رمى الدَّرْبَ بالجُرْدِ الجِياد ِإلى العِدا وما عَلُمِوا أنَّ السَّهام خُيُولُ
بدليلِ أن مصطلحَ الدَّرْبِ هذا يعني المحورَ المذكورَ، ذلك أن أمرا القيس عناه منذ الجاهلية بقوله:(183)
بَكَى صاحبي لمَّا رأى الدَّرْبَ دْوْنَهُ وأَيْقَـنَ أنـّا لاحقانِ بِقَيْصَرا
وتتجلّى الصورةُ عندما يوظِّفُ الأبعادَ المكانيةَ والزَّمانيةَ معا، فَيَحسُِّ المتلقي بالظّروفِ التي أحدقت به، ومعاناتِهم، شأنُهُ في تحديِد زمانِ غزوةِ سيفِ الدولة شتاءً بدليل توظيفه "سيحان جامد":(184)
أخو غزواتٍ ما تُغِبُّ سُيُوفُهُ رِقَابُهُمُ إلاّ وَسيْحانُ جَامِدُ
فَيُحَدِّدُ مِحْورَاً من الثغورِ الشامية، لأِنَّ سيَحانَ اصغرُ من جَيحان، وتقع عليه أَذْنَهُ في ثغور الروم(185): ولنا أنْ تتخّيل صورةَ الحرب في هذا المحور، والنَّهْرُ جَمُدَ لِشِدَّةِ البَرْدِ.
وبالمَكانِ والزّمانِ تَتَجلّى سَيْرُ العمليةِ العسكريةِ، من أمد مِنَ الثغورِ البَكريّة، إلى نهر جَيحانَ، لِمُدةِ ثلاثةِ أيام زمانا، وهي مدةٌ زمنيةٌ فيها مَشَقَةٌ، تُبْرِزُ مسيرهَ ليلا، وتحدّدُ مِحْورَ حَرَكَتِه العسكرية، فتقرّبُهُ مِن هَدَفِه "جَيحان" وتُبْعِدُه عن قاعدتِهِ العسكريّة "آمد" التي انطلق منها (186)
سَرَيْتَ إلى جَيحانَ مِنْ أرضِ آمدٍ ثلاثاً، لقد أدناكَ رَكْضٌ وَأبْعدَا
لقد حَدَّد الشعر قاعدةَ الهجومِ من آمد عاصمةِ الثغور الشّامية، ومسيرَهُ ليلا لِتُذكِّرَه، كما تَجلّى بالأبعاِد المكانيِة والزمانيِة أحيانا قَوْسُ مسؤوليتِه، فندركُ أن سيفَ الدولةِ 0كان حامياً للثُغورِ جميعِها الشاميِة والجرزيّة متخّذا له البكرية ثغوراً بالعمق.
ويحدِّدُ الصيفَ زمانا لغزوة من غزوات ممدوحهِ بدليل قوله:(187)
وَشُرَّبٌ أحْمَتِ الشِّعرى شَكائِمَها وَوَسَّمَتْها على آنافها الحَكَمُ
فنفهمُ أنَّ الغزواتِ كانت صوائفَ وشواتي، حَدَّد مواعيدها صاحبُ "الِخَراج وصناعة الكتابة"(188) كما تَستوقِفُهُ الحربُ الليليةُ زمانا، ففي رومياته، وبعد أنْ يأسر سيف الدولة رُوْماً من ثغر هِنْزِيط شماليَّ شرقيَّ مَلَطْيةَ، من الثغورِ الجزريِة، ها هو ينشرُهم في آمد، ثم يتَّجِهُ جنوباً باتجاهِ بلادِ الشامِ فَيَحتلُّ حِصني؛ الصفصافَ وسابورَ، في محوِر الدَّربِ، ثم يسيرُ ليلا، في وادي الصفصافِ، مُختتما مَهمَّتَهُ بعد أنْ هَدَمَ الحصونَ(189) ليلا، فيقول:(190)
وَتُضْحِي الحُصونُ المُشْمَخرْاتِ في الذُّرى وَخَيـْلُكُ فـي أعْنَاقِهِـنَّ قَلائِدُ
عَصَفْنَ بهِمْ يَـوْمَ اللُّقـانِ وَسُقنَهُـمْ بـ هنريـط حتى ابْيَضَّ بالسَّبي آمد
وأَلحْقَنَ بالصَّفصـافِ سابـُورَ فانهـوى وذاقَ الرَّدى أهلاهُما والجَلامِدُ
وقد يُشَكِّلُ الليلُ في بعضِ صورهِ ليلا من الغُبارِ، ومع ذلك يُطارِدُ سيفُ الدولةِ خُصومَه من بني كلاب، وَيَهِزمُهم في هذا الموقِف المعتِم المغبّر، فندرك أبعاد الصورة النفسية للقائد المنتصر:(191)
إذا صَرَفَ النَّهارُ الضَّوْءَ عَنْهُم دجـا ليلانِ :ليلٌ والُغبارُ
كما يحاربُهم بِضَوءِ النَّهار وبريقُ السيوفِ معه إنها صورة لونيّة صوتيّة:(192)
وإنْ جُنْحُ الظَّلامِ آنجابَ عنهم أضَـاءَ المَشْرَفَيَّةُ والنَّهارُ
وبالأبعاد المكانيِة والزمانيِة ظهرت إدامهُ الزَّخمِ في هجوم ممدوحِه، على عدوّه ليلَ نهارَ حتى أحرزَ النصرَ عليه:
هذا، وقد أبرز الدارس صورا متعددة للمحاربِ في شعرِ المتنبي، من حيث سماتُهُ وموقعُ القادةِ، ومَعداتُ الحرب، وَدلالاتُها، ومن حيثُ لباسُه الحربُّي، ودلالاتُه، وأبرزت الدراسة صورا من الخيل، ودلالاتِها، أبرزت الدارسة فُنوناً من الحربِ ودلالاتِها واخْتُتَمتْ بصورٍ من الأبعادِ المكانيةِ والزمانية بدلالاتٍ متعددّة مما قد يشير إلى أهميّة مثل هذه الدراسات، ولا سيما عند مواجهة النص.