العودة   منتديات الشبول سات > المنتديات العامة والمنوعة > منتدى الأبحاث والكتب والبرامج التعليمية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 12-24-2011, 11:59 AM
الصورة الرمزية ابو فارس
ابو فارس ابو فارس غير متواجد حالياً
 




معدل تقييم المستوى: 0 ابو فارس على طريق التميز
افتراضي جديد صورة المحارب في ديوان المتنبي


ملخّصُ الدراسة:
نهضت الدراسة بمقدمة وستة محاور، هي:
- صور من سماتِ المُحارب وموقعِ القادة.
- صور من أدواتِ الحربِ ودلالاتُهِا في شعره.
- صور من لباسِ المُحاربِ ودلالاتُها في شعره.
- صور من الخيل ودلالاتُها في شعره.
- صور من فنونِ الحرب ودلالاتُها في شعره.
- صورٌ من الأبعادِ المكانّية والزمانية ودلالاتُها في شعره.
أما المقدمة فأبرزتْ شغور هذا المحور للدّارس؛ إذ لم يُدْرَسْ قديما وحديثاً على رغم من أهميّته، وبروزِهِ في ديوانه، أما المحاورُ الستةُ الأخرى فبيّنت أهميةَ سماتِ المحاورِ ومَعَدّاتِ القتال وألبستهَم والخيلَ وتنوَّعَها ودلالاتهِا مثلما وَضَّحَتْ صورا من فنون القتالِ، وصوراً من الأبعادِ المكانية والزمانّية ودلالاتِها في شعره، مما لم تدرس من قبل في حدود ظَنّ الدّراس.











ــــــــــــــــــــــ
* نشر هذا البحث في مجلة المجمع العلمي، ج1، مجلد 47، بغداد، 1421هـ- 20000م، ص67.
1.المقدمة:
لا جَرَمَ أَنَّ لصورِ المحاربِ، في شعر أحمد بن الحسين المتنبي (303-354هـ) حضوراً مِبرازا، تَقُع عليه العُين في قصائدِ ديوانِه، فينقلُِكَ إلى الهيجاءِ وساحِها، فترى مَعَهُ بعينِ خيالِك مُحاربينَ رَجَلَةً وفرساناً، إما يتطاعنون بالرِّماحِ، أو يتقارعون بالسُّيوفِ، أو يتشاجرون بالقسِيّ والسِّهام، وتصيخ بمسمعيك إلى حمحماتِ الجياد، وتصفيقِ سنابِكها، وهي تَنْقُشُ صدورَ البُزاةِ على صُمَّ الصَّفا، أو تطبعُ بالحرفِ الأوّلِ من أسم قائِدها"علي" فَتَمْزجُهُ بمقدوحِ الشَّرر، وصليلُ السيوفِ يمتشجُ مُقَعْقِعاً في البيَض والهاماتِ، في نقيع القساطلِ المتفرّقة، من أصقاع دولةِ بني العباس؛ داخلَ حدودِها وخارجَها، تقمعُ الفتنَ الداخليةَ، وتلتحم مع الروم، في معاركَ شتّى كرّاً وفرّاً، والنتائجُ تماخضُ قتلى وجرحى، وأسرى وسبايا وإعزازآ وإذلالا.
وعلى الرَُّغمِ من حضور المحارب في شعرهِ، فإنّ الدراساتِ في هذا المجالِ نادرةٌ أو قليلةٌ لم تستوفِهِ حَقَّهُ قدَيماً وحديثاً، فمن القدماء من دَرَسَ مقاطعَ مبتسرة من شعره، أو لخّص رأياً له في شعرهِ عامة، أو نَظَرَ إلى شعر الحربِ عنده؛ شأنُ الشّريفِ الرّضي، فأرتاه "قائد عسكر"(1) كأنما يُكَثّفُ توقيعا بليغاً فيه،ومنهم من قَرَّضَ شُهْرَتَهُ بين النّاس، واستحسنَ فيه البديهةَ والارتجالَ، دون أنْ يمثّلَ على فنَّ الحَرْبِ عِنْدَه، أو يظهرَ صورة الحربِ في ميدانهِ، شأنُ ابن رشيقٍ الذي يقول: " ثم جاءَ المتنبي فملأ الدنيا وَشَغَلَ النَّاس، ..كان كثيرَ البديهةِ والارتجالِ، وهو خاتم الشعراء......(2)
ومنهم من أهتمَّ بهيئته جالساً؛ وهو يُنْشِدُ بين يدي سيفِ الدولةِ، ولامتلاكه القوافي والمعاني، شان الثعالبي الذي يقول فيه:" .. وقد تفرَّدَ عن أهِل زمِاِنه بِمِلكِ رقابِ القوافي ورقةِ المعاني.(3)
وَبعضُهم من استوفقهُ تصويرُهُ للمعارك، شأنُ ابنِ الأثير، فذهبَ يؤَكَدُ شهودهَ الحرْبَ مع سيفِ الدولة، ولهذا فلسانُهُ يِصَفُ ما رآه عَيانا، وكأنَّ ابنَ الأثيرِ يَشْهَدُ له بِصِدقْه، ويُعْجَبُ بتشخيصه صُور الحرْبِ، وَوَصْفَهُ لها وهو على أهميّة رأيهِ يَعوُزهُ تجليةُ الصورةِ الحربية، والتدليلُ عليها فيقولُ فيه:" إذا خاضَ في وصفِ المعركةِ، كانَ لسانُه أمضى من نِصالِها، وأشجعَ من أبطالِها، وقامت أقوالُه للسامعِ مقامَ أفعالها، حتى تَظُنَّ أنّ الفريقينِ قد تقابلا، والسّلاحين قد تواصلا"(4)، هذه أبرز آراء القدماء فيه، أمّا أبرزُ دراسات البَحَثَةِ المحدثين فيه، فدراسة موسومة "ب" الحَرب في شعرِ المتنبي؛(5) إذْ إنَّهُ خَصَّ الحربَ بالباب الرابع من رسالتِه، فَدَرَسَ أوصافاً لأبطالٍ ونفسياتِهم، وبعضَ الأسلحةِ، ونتائجَ المعارك، ولكنّه على َجهده، لم يَنْفُذْ إلى الصورةِ الفنيةِ للمحاربِ، ولم يتغلغلْ في أبعادِها، وتنوِّعِ َدلالاتِها، كما طغى على تحليلهِ الشَّرْحَ المدرسيُّ للنَّصّ، ينثرُه دون أنْ تستوقفِهَ في كثيرِ من الحالات، الدلالاتُ العميقةُ للصورة الحربيةِ، ولم يُكَلِّفْ نَفْسَهُ توثيقَ الشاهدِ الشعري ورقمَ صَفْحَتِهِ، فبدا بحُثهُ عائماً غائماً.
ومن الدراسات في هذا المجال دراسةٌ موسومة بـ" سيفيات المتنبي" دراسة نقديّة للاستخدام اللغوي(6): نَحَتْ فيها مَنحى لغوياً أكثرَ منه فنيا، واقتصرته على سَيفياتِه، فافتقدْنا الصورةَ الحربيةَ في غيرِ سَيفياته، ولعلَّ عُذرَها غيرَ المستقصي لصورةِ الحربِ أن يكونَ في ضَوء مَعطياتِ رسالتِها وخُطتِها.
ومن الدراسات المتخصصة في هذا المجال دراسةٌ موسومةٌ بـ" شعر الحرب في أدب العرب في العصرين الأموي والعباسي"(7)، خَصَّصَ البابَ الثالثَ من رِسالتهِ الجامعيّة، لدراسة "شعر الحرب في ظِلَّ الحمدانيين" وعلى تقديري لِجَهْدِهِ المكثّفِ وتعنّيه بدراساته، لأقوال الفرنجة، في أوصاف الحرب، التي شَهدَها المتنبي وسيفُ الدولة، ومحاولتِةِ تعزيزَ فَضْلِ الشَّعرِ على رأي التاريخ، الذي لم يَفِهِ المؤرخون حَقَّهُ، فقد اتسمتْ دراستهُ بالسَّياسة والتاريخ، وَقَّلما كان يُبّرِزُ الصّورةَ الحربيةَ الا وهي مزجاة بأحضانهما، ولكنّه - للحِقّ- تَوَقَّفَ عند أَرْبَعِ قصائدَ روميّة للشاعر فَجَلّاها، وغير أنّ وَقفاتهِ الفنّيةَ لم تُسْتَكْمَلْ؛ وذلك أمرٌ بَدَهِيٌّ في ضَوءِ دراسة أخرى من رسالتهِ.
أَمّا منهجي في دراستي هذه ، فأحدَّدُ باختصارٍ، مفهومي للصورةِ أوّلا ودراستي ثانياً لمحاورَ سِتَّةٍ من صورِ الحربِ، أفترضُ أَنَّها تقَّدم صورةً واضحة إنْ لم تكن كافيةً للمحارب.
والصورة بمفهومَها العامّ على اختلاف تعريفاتها(8): هي هيئُةٌ تثيرُها الكلماتُ الشعريّةُ بالذُّهن؛ شريطَة أنْ تكونَ هذه الهيئةُ معبَّرةً وَمُوْحِية بآن، وهي بمفهومِها الخاصّ: تركيبةٌ عقليةٌ تَحْدُثُ بالتناسبِ، أوْ بالمقارنةِ بين عُنصرينِ هما؛ في أحيانٍ كثيرة: عُنْصُرٌ ظاهريٌّ، وآخر باطنَّي، وأنَّ جَمالَ ذلك التناسبِ أو المقارنةَ يُحَّددُ بِعُنصرين هما: الحافزُ والقِيمةُ،لإنَّ كُلَّ صورةٍ فنّيةٍ تَنْشَأُ بدافعٍ وتؤدّي إلى قيمة(9).
وأفهم مما سبقَ أنَّ عناصرَ الصورة أربعةٌ: هي عُنْصُرُ ظاهريٌّ، يتأتّى من مُدْرَكاتِ الحواسِ الخمسِ، وعنصرٌ باطنيٌّ نفسيٌّ، وعنصرُ الدافعٍ المحرَكِ لهذه الصورة وإبداعِها، وعُنْصُرُ القيمةِ التي نَظّمَ لِأجلها شعرا.
وعليه؛ فَيُعْتَمَدُ النَّصُ ومجادلته عندي في ديوان المتنبي، مشيراً إلى رقم الجزء والصفحة، وَقلّما أَرْجِعُ إلى نُقولِ غيري فيه، لكي لا يتحّولَ البحثُ قولاً على قول، أو يُحشى بأقوالِ المؤرّخين؛ فتضيعُ الصورةُ الفنيّةُ أو يُعَتَّمَ عليها، فَضَلا عنْ أنَّ فسحةَ الدراسة قد تتضايقُ عن هذا النهج، وها أنا قسمت دراستي ستةَ محاورَ تقدَّمُ مشاهد من صورةِ المحارب، من كلِّ محور فيها وهي على النحو التالي:
1-صورٌ من سِمات المحاربِ ومواقِعُ القادة.
2-صورٌ من مَعَدّاتِ الحَرْبِ ودلالاتُها.
3-صورُ من لِباس المحاربِ ودلالاتُها.
4-صورٌ من الخَيل ودلالاتُها.
5-صورٌ من فُنونِ الحرب ودلالاتُها.
6-صورٌ من الأبعادِ المكانيةِ والزمانيةِ ودلالاتُها.




















2."صور من سمات المحارب وموقع القادة"
تَلَفَّتَ المتنبي إلى صور المحاربين بنوعيها؛ المعنويةِ والجسديةِ عامة، وإلى صور القادةِ خاصّة؛ وزّعها على قَاَدةٍ كثارٍ، وَخَصَّ سيفَ الدولةِ منها بسماتٍ انماز بها عَمنْ سواه، وراحَ يلتقطٌ لهم صوراً متعدّدة في أنحاءٍ شتى، من أصقاعِ الدولة العباسية وخارجهِا على الثغور.
أَمّا أبرزُ الصفاتِ العامة فتعريب القيادة، لأنه يرى إصلاح الناس بإصلاح الملوكِ فأصخْ إليه يقول(10):
وإنّما الناسُ بالملوكِ ومـا تَصْلُحُ عُرْبٌ مُلوكُها عَجَـمُ

وحجته أنّ للقيادة العربيةِ صوراً معنويةً خاصّة؛ يفتقدُها في القيادة العَجَميّة، وهي الأدبُ والحَسَبُ والعهدُ والذمة(11):
لا أدبَ عندهمُ ولا حَسَـبُ ولا عهـودَ لَهـُمْ ولا ذِمـَمُ

ويؤكّد أهميةَ تعريبِ القيادة فيهزأُ بقيادةِ كافورٍ لصورٍ جسديّةٍ ومعنويةٍ فيه فهو أسودُ فكيف يقودُ السادةَ الأحرار(12):
ساداتُ كُلِّ أُناسٍ منْ نُفُوسِهِم وسَادةُ المسلمينِ الأَعْبُدُ القُزُمُ

وَمِنْ سمِاتِ القائِد حْرِصُهُ على توحيدِ الكلمةِ، ورصِّ الصفوفِ، بقطعِ الخلافِ بين القادةِ المتناحرين بـ "الصُّلح"(13):
حَسَمَ الصُّلحُ ما اشَتَهْتهُ الأعادي وأذاعَتـْه ألْسُـنُ الحُسّـَادِ

ذلك؛ لأنَّ للصلح صورة معنوية نفسية يصونُ بها النفوسَ من القتل، ويحققُ بالتالي ما تَعْجزُ الأسلحةُ عن تحقيقِه؛ موظفاً "التدوير" في البيت الأول يعادل به نفسيته الطموحَ التي لا تتوقّفُ السّمرُ فيه عن شطر فيهِ، الا وهي تُمَدُّ "الراء" إلى الشطر الثاني لتصونَ الأرواحَ بعد أن تركت" "السم" عند نهايـة الشطـر الأول(14):
نِلتَ ما لا يُنال بالبيض والسُّمـ(م) ر وَصُنْتَ الأرواحَ في الأجسادِ

ومن سماتِ القائدِ المعنوية، عزيمةٌ قويّةٌ تَسْتَمِدُ ثِقتّها من الله سبحانه، فتستعذبُ طعمَ الموتِ في الهيجاءِ، على ما لآسمها من صورةٍ هوجاء، موظّفاً اسمَ الهيئة التي تُحْوِلُ الطَّعّمَ الُمرَّ حُلواً في صورة ذوقية(15):
فَثِبْ واثقاً باللِه وِثْبَةَ ماجدٍ يرى الموتّ في الهيجا جنى النَّحلِ في الفَمِ

وقوله:(16)
ونفوسٌ إذا انبـرتْ لِقِتـالٍ نَفـَذَتْ قَبـْلَ أنْ يَنْفَذَ الإقدامُ
ومن سمات القائد المعنوية النزاهةُ التي يرتفعُ بها قدرُ ممدوحه:(17)
رَفَعَتْ قدرَك النزاهةُ عَنْـه وثَنَتْ قلبَك المساعي الجسامُ

والقائدُ مدَّربٌ جَيّدَ ورامٍ ماهر، شأن علي بن محمد بن سيّار، رامي النشّاب، ذي الإصابةِ الدقيقة، موظّفا صورةً بصريةً سمعية، يعرض خلالهما لَهَبَ الرمية وصوتَ الانطلاقةِ إلى هدفها(18):
يُصيبُ بِبَعَضِها أفواقَ بَعضٍ فَلْولا الكْسرُ لاتصلتْ قَضِيْباً يريكَ النزعُ بينَ القوسِ مْنِـه وبينّ رَمِيّهِ الهـدفَ اللهيبـا

ومن سماتِ القائد شجاعتُه في الحربِ نحو مساورِ الرومي الذي عرض صورتَه المعنوية شُجاعاً على استعارةٍ تصريحية "ليث غاب" ذاكراً اسمه على باب من تمجيد اسمه وتخليدِ ذكراه:(19)
أمسـاروٌ أم قَـرْنُُُُ شَمْسٍ هـذا؟ أو ليثُ غابٍ يَقْدُمُ الأُستاذا؟

وسيف الدولة شجاع من ارومه شجاعة، كابرا عن كابر باسلوب نسبـي:(20)
وأنتَ أبو الهيجا ابنُ حمدانَ يا آبنه تشاَبهَ مولودٌ كريـمٌ ووالِـدُ
وحمدانُ حمـدونُ وحمدانُ حارثٌ وحارثُ نعمانٌ ونعمانُ راشِدُ

والقائدُ ذو سِمَةٍ معنويةٍ أكَبْرَها فيه، وهي الكرمُ، شأنُ ممدوحهِ العلوي الذي وَرِثَهُ عن كابر وعن سجيه: (21)
كذا الفاطميونُ النّدى في بَنانِهم أعزُّ امّحاًء مِنْ خُطوط الرّواجب

ومثله ممدوحُه القِائُد سيفُ الدولة الحمداني الذي لا تكاد تقف لكرمِهِ عند حد:(22)
وإذا سألتَ بَناَنَـهُ عـَنْ نَيْلـِه ِ لَمْ يَرْضَ بالدنيا قضاءَ ذِمامِ
ويعرض أحياناً صِفتين للقائد على باب تمني هذه الخصيصة فيه، ليذكره بمواعيده التي لم تُنْجزْ، شأنه مع كافور:(23)
تزيدُ عطاياه على اللُّبثِ كَثْرةً وَتَلْبَثُ أمواهُ السَّحابِ فَتَنْضَبُ

وتلفّت إلى الصورة الجسدية للقائد، فأعجبه قيافةُ الحسنِ بن عليِ الهمذاني، بطوله المعتدلِ، كَقَدِّ القناةِ، ليس بأقيسَ أو أحدبَ، فناسبتْهُ الدرع الطويلة على بدنه في موقف حربي:(24)
وغالَ فُضولَ الدِّرعِ مِنْ جَنَباتِها على بَدَنٍ قَدُّ القناةِ لَهُ قَدُّ

وهذه أبرزُ السمات العامة للقائد، أما السمات الخاصة فانمازَ بها سيفُ الدولة عمن سواه منها: السِّمةُ المزدوجةُ، الفروسية والأدبُ معا:(25)
وميدانُ الفصاحةِ والقوافي وَمُمتحِنُ الفوارسِ والخيولِ
وهو قائد جيشٍ يَعْرِضُهُ ويتفقَّدُهُ:(26)
ولما عَرَضْتَ الجيشَ كانَ بهاؤُه على الفارسِ المَرخي الذؤابةِ مِنْهُمُ

ومنه أنّه القائدُ الذي يُحْسِنُ تعبئةَ الصفوفِ لِيَزُجّها في ساح الوغى، والشاعر يرقبه ويرافقه:(27)
عَرَفْتُكَ والصُّفـوفُ معبّآتٌ وَأَنـْتَ بِغَـيرِِ سيفِـكَ لا تَعِيجُ

ومن سماتِهِ الخاصَةِ أنَّ مَيَّزَتْهُ الخلافةُ عن غيره، فأَعدَّتْهُ لمواجهةِ الروم، "ولقَّبتْهُ "سيف الدولة":(28)
لأمـرْ أعدَّتـْهُ الخِلافةُ للعدا وَسَمَّتْهُ دونَ العالمينَ الصّارمَ العَضْبا

إنّ تلقيبَ الخليفةِ له "سيفَ الدولة" على أهميته، ظلمٌ له، بِخلاف اسمِهِ الحقيقي "علي" الذي يستأهلُه بحقّ؛ذلك لأنَّ للسيف حدَّا يَنْقَطِعُ بالضرب حِينا، في حينَ أنَّ كَرَمَهُ لا ينبو، أمّا اسمُه "علي" فاسم على مُسمّى وهو انصافٌ بِحَقّه، متّبعا أسلوبَ المناطقة في المقارنة والتمنطق:(29)
وإنَّ الذي سمّى "علياً" لَمُنْصفٌ وإنّ الـذي سَمّاهُ سَيْفَاً لَظَالِمُهْ ومـاكُلُّ سيفٍ يَقْطَعُ الهَامَ حَدُّهُ وتقطعُ لَزباتِ الزمانِ مَكارِمُهْ

فهو سيفُ الِله المسلولُ، عاتِقُهُ عليه، وقائِمُه بيد جبُّارِ السموات، على مال "جَبّار" من صورةٍ صوتيـةَ تَئِطُّ منها صِيغةُ مُبالغـة، محمّلةٌ على كَفّ قدرةٍ إلهية لا تقهر:(30)
على عاتقِ المَلْكِ الأغَرَّ نِجادُهُ وفي يدِ جَبّارِ السمواتِ قائِمُةُ

ومن سماتهِ الخاصّةِ أَنَّ حَرْبَهُ دينيُةً يعِزُّ بها الإسلامُ، ويعلو على بقية الاديان، وليس بغروى أن تكونَ حربُ سيفِ الدولةِ مع الروم دينية؛ ذلك أنّ أناشيدَ الروم على ما يذكره شلمبرجة الفرنسي كانت "النصرُ للهِ الذي هَدَمَ البلادَ العربية"، والنصرُ لله الذي شَتَّتَ من ينكر التثليثَ المقدَّسَ، والنصرُ لله الذي جَلّل بالخيبةِ هذا الأميرَ القاسي (سيف الدولة) عدَّو المسيحِ، النصرُ لله، النصرُ لله.(31)
خَضَعَتْ لُمنْصُلِك المناصِلُ عُذْوَةً وَأَذلَّ ديُنكَ سائرَ الأديانِ(32)
ولكي يذلّهم، فلا بد من أن ينمازَ سيفُ الدولة بسرعةِ الحشد، في جاهزية قتاليةِ، َيرُدُّ بها على هجوِم الروم، من حَلَبَ إلى الثغور:(33)
وظَنِّهمُ أنّكَ المصباحُ في حَلَبٍ إذا قَصَدْتَ سواها عادها الظُّلَمُ
فلم تُتِمَّ "سَروجُ" فتحَ ناظرِهـا إلا وجيشُك فـي جَفنيهِ مُزْدَحِمُ

ولهذه السماتِ الخاصةِ المتشجة، بصورة نفسيـة رعب يبعثه في قلوب العدو قبل التقائه:(34)
بعثوا الرُّعْبَ في قـلوبِ الأعاديّ فكانَ الِقتالُ قَبْلَ يومِ التّلاقي
كما يوزِّعُ الرُّعْبَ على قلوبِ الروم قبل عيونهم:(35)
أبْصَروا الطَّعْنَ في القلوبِ دِراكاً قبل أنْ يُبصروا الرِّماحَ خَيالاً

وتبدو الصورةُ البصريةُ في عيونِ الروم كبيرةً مرعوبةَ الرؤية، فترى لِفزعِها طولَ أذرعِ القنا على مسافتهِ القصيرة أميالا تنوشُهم أنّى كانوا، فبدا الرعب جيشا يبيدُ جموعَهم يَمنة ويَسرة:(36)
وإذا حـاولتْ طِعانـَك خَيـْلٌ أَبْصَـرَتْ أذْرُعَ القَنا أميالا
بَسَطَ الرُّعبُ في اليمين يمينـاً فَتَولّوا وفي الشِّمال شِمالا

ولعلَّ لهيبةِ سيفِ الدولة برعبهِ الممتدّ فيهم، دورا أَكَّدَهُ شَلمبرجة على لِسانِ الرومِ في عصره فأسموه "الكافر الحمداني" وهو " المحارب الوحيدُ الأعظمُ الساميُّ الذي أعلنَ الحربَ المقدسةَ على النّصرانية:(37)
وحب التضحية، وافتداء نفسه، أمامَ جيشهِ سمةٌ يمتازُ بها سيف الدولة عمن سواه:(38)
كـُلٌّ يُريـدُ رِجـاَلـهُ لِحَياِتـهِ يـا مـَنْ يُرِيـدُ حياتَهُ لِرِجَاله

واهتمامُه بالصور النفسية للقادة مَكَّنَهُ من عَقِْد مقارنهٍ بين قائده سيفِ الدولة الذي يفتـدي جيشَه بنفسه، والدمستقِ الروميّ القائد، الذي يُضحّي بأصحابهِ لينجوَ بنفسه:(39)
مضى يَشْكُرُ الأصْحاب في فَوْتهِ الظُّبى بما شَغَلتْهُمُ هامُهمُ والمعاصمُ

ومن سماتهِ المعنويةِ الرحمةُ بالقبائل العربية المهزومة، لما لهم عليهِ من حَقّ الجوار، والأرومةِ المشتركة:(40)
لَهُمْ حَقٌّ بِشِرْكِكِ فـي نـِزارٍ وأدنى الشّركِ في أَصْلٍ جِوارُ

إنَّهُ القائدُ الذي يعفو عن بني قومه إذا جنَحوا، ويترفَّقُ بهم، وهي صورة نفسية مُثلى، تُعْجِبُ الشاعر:(41)
عفا عنهم وأعتقهم صِغاراً وفـي أعناقِ أكثرِهم سِخابُ

ومن صفاتِ سيفِ الدولة درايُته بشؤون الحرب؛ فَيَعْرِضُ علينا مشاهدَ من تركيزه أسلحتَه على المرتفعات المحدقةِ بقِواته، للإنذارِ الأولىّ عن العدّو على ما يفهم من تركيزه هذا:(42)
تَبِيْتُ رماحُهُ فوَق الهوادي وقد ضَرَبَ العَجاج لها رِواقاً

وسيفُ الدولةِ ذو رأي في الحرب ممتزجٍ بشجاعةٍ ببلغ بهما علياءَ القيادة:(43)
الرأيُ قَبْلَ شجاعةِ الشجعان هو أوَّلٌ وهي الَمَحلُّ الثاني
فإذا هما اجتمعا لِنَفْسٍ حُرّةٍ بَلَغَتْ من العلياءِ كُلّ مكانِ

وأما أبرزَ سماتِ الجندِ فالفتَّوةُ والخبرة في الحرب بدليل أثارِ الجراح التي وَسَمَتْ وجوهَهم:(44)
وَكُلّ فتىً للحَرْبِ فَوْقَ جَبِينِه مِنَ الضّْربِ سَطْرٌ بالأَسنّةِ مُعْجَمُ

وهم على صوره نفسية مستعدون للحرب، فيتفقدون لباسهم الحربي لهذه الغاية، ودروعهم ضافية، وعيونهم كعيون ذكران الأفاعي؛ تتبدى مرعبة من تحت خوذهم الفولاذية:(45)
يَمْدُّ يديهِ في المُفاضةِ ضَيْغَمٌ وعينيهِ من تَحْتَ التّريكةِ أَرْقَمُ

وهم يجيدون تمويه أنفسهم وخيولهم فتبدو بتجافيفها مدرعة ملثمة على محمل من صورة بصرية:(46)
لها في الوغي زِيُّ الفوارس فوَها فَكُـلُّ حِصانٍ دارعٌٍ مٌتلثِّمُ
ومن الفرسان "الملثم" لئلا تسقط عمامته في ساح الوغي:(47)
سأطلب حقي بالقنا ومشايخٍ كَأَنَّهم من طولِ ما التثموا مُرْدُ

وإذا كان الشاعر نقلنا إلى مشاهد بصرية ونفسية للجند، وهم في حالة استعدادهم للحرب على خبرتهم وتمويههم؛ فها هو ينقلنا إلى صورهم الحركية، وهم يمتطونَ صهواتِ خيولِهم، خِفافَ الأجسام، رشاقا، لا تكادُ تَشْعُرُ الخيولُ بهم على متونها وهم محترفون في ضرب الهامات:(48)
ضَروبٌ لهامِ الضاربي الهَامِ في الوغي خَفيِفٌ إذا ما أَثْقَلَ الفَرَسَ الِّلبْدُ

وهم جيدو الرماية من على صهوات افراسهم، فيسدّدون رماحَهم إلى أعدائهم من بين اذانها:(49)
وجُرْداً مَدَدْنا من بينِ آذانها الَقنا فبِتـْنَ خِفافا يتَّبِعْنَ العَواليا

وهم يمشّطونَ الأرضَ بسيوفِهم، بحثا عن خصومهم في مسرحِ عملياتهم، سواء ارتفع آكامها أم انخفضت غيطانها:(50)
تَرمي على شَفَراتِ الباتراتِ بهم مكامنُ الأرْضِ والغيطانُ والأَكَمُ

وابرزَ لنا في مشاهدَ مواقعَ القادة في ميدانِ القتال، ففي الهجوم يتحرّكُ سيفُ الدولة من موقعهِ إلى القلبِ والميمنةِ والميسرةِ، ويكشفُ الموقفَ عن كثب، ويدير شؤونَ المعركةِ حسب ما يستجد من مواقف:(51)
الجيشُ جَيْشُك غَيَرَ أَنّكَ جَيْشُهُ فـي قَلْبهِ ويمينهِ وشمِاله
أما صورة قائد الروم فأبرزها صورة حركية مرتعبة يفِرُّ قائدُها في مقدمة الفارين:(52)
لَعَلّكَ يوماً يا دُمُسْتـُقُ عائـدٌ فَكم هاربٍ ممّا إليه يـؤول
نَجَوْتَ بإحدى مُهجتيك جريحةً وخَلَّفْتَ إحدى مَهجتيك تسيل

وأما في حالة تقدم الجيش فإن سيف الدولة يندفع في مقدمته لقتال الـروم:(53)
فلما رأوه وَحْدَهُ قَبْلَ جَيْشِـهِ دَرَوا أنَّ كُلَّ العالمينَ فُضُولُ

واتنقلنا مع الشاعر لنشهد خطورة الروم على المسلمين آنذاك، فهم اقوياء، يهدّدون، ويتوعدون، من جهة:(54)
أبا العَمَراتِ تُوعِدُنا النصارى ونَحنُ نُجوُمها وهِيَ البروجُ

ومن جهة أخرى يحتشدون بعناصرَ قتاليةٍ من جنسيات شتى، شأنُهم في معركةِ الحَدَثِ، إذ حشدوا لها روما وروساً وبلغارا في حرب منظمة، وقصدهم هَدْمَ قلعةِ الحَدَث:(55)
تَجَمّـعَ فيـهِ كْـلُّ لِسـنٍ وَأمـةٍ فمـا تُفْهِمُ الحُدّاثَ الآ التراجمُ
وكيفَ تُرَجِّي الرومُ والروُس هَدْمَها وذا الطّعنُ آساسٌ لها ودَعائِمُ(56)
ويقدر قوات الروم بـ"خميس" من خمس فرق على ما تفهمه لغويا:(57)
كما يحدّد محورَ هجومهِ على قَلعة الَحَدثِ من الشرق باتجاه الغرب:(58)
خَميسٌ بِشَرْقِ الأرضِ والغربِ زَحْفُهُ وفي أذُنِ الجوزاءِ مِنْهُ زَمازِمُ

كما تقدر قوة الروم لا بالخميس فحسب، بل بذكره الرتب العسكرية التي تقدر القوة بها، نحو توظيفه "البطاريق" الذي يرأس كُلّ بطريقٍ منهم عشرة الاف جندي على ما يذكره معاصره:(59)
وإذا ما استعنا بجمع بطريق على بطاريق فإنّ جيشَ الروم لا يقل عن ثلاثين ألفا، وقد عزموا على قتالِ الذي كان يسمونه "كافرَ بني حمدان" على ما ذكرتُ من قبلُ، ذلك بأن اقسموا بَمِفرَق ملكِ الروم على سحقِ سيفِ الدول، ولكنَّ المتنبي صغَّر اسمَ قائدِها "شُمُشْقِيق" تحقيراً له أو استهانة بايمانه التي خانه تنفيذها:(60)
آلى الفتى أبنُ شُمُشْْقِيقٍ فَاَحْنَثَهُ فَتى من الضَّرْبِ تُنْسى عِْنَدَهُ الَكلِمُ

وأفرز للرومِ استخباراتٍ دقيقة عن المسلمين، فقد علموا بمرضِ سيفِ الدولة ومكانه في "حلب" فأغاروا على الثغور:(61)
وَغَرَّ الدُّمُسْتُقَ قَوَلُ العدا (م) ةِ أَنَّ عَلِيَّـا ثقيـلٌ وَصِـبْ
3."صور من أدوات الحرب ودلالاتها"
وللمحارب أدوات حرب منها: أدوات يقتلُ بها، ومنها ما يدفَعُ بها عنه أذاها، فما هي؟ وكيف وظّفها في شعره؟ وما دلالاتها؟ مبتدئا بأدوات الحربِ القاتلة، أدرجها على أنها إجراءات معركة دفاعية ابتدئ بها حسب مدياتها البعيدة فالقريبة ثم الأقرب على النحو الآتي: المنجنيق، والسّهم، والرمح، والسّيف.
أمّا المنجنيق فذات رمايةٍ بعيدةٍ بأحجارِ على ما تفهمه مـن مصطلحات المؤنث(62)، وانظر تأنيثها في الاسماء المؤنثة(63). وأبرزها الشاعر دلالة على دقة رماية سيف الدولة:(64)
تُصيِبُ المجانيقُ العظامُ بِكَفّه دقائقَ قَدْ أعيَتْ قِسيَّ البنادق

وأمّا صورة السهم والقوس وملحقاتها من كنائن فأبرزها السهم حينا يصيب هدفه رماية ممدوحه، ويترك برمايته جراحا نازفة في صورة دموية حركية:(65)
إذا بكـت كـائنـه استـبنّا بِأنْصُلِهـا ِلأنصِلهـا ندوبا

ولتحقيق دِقّة إصابته، يحافظُ على ما يمكنُ تسميُته بـ" نقطة التسديد الواحدة" فتقع سهِامه بعضُها فوقَ بعضٍ، ولولاَ تَكسُّرُ بعضِ نصالها ببعض لاتصلت قضيبا:(66)
يُصِيبُ بِبِعْضهِا أفواقَ بَعْض ولولا الكَسْرُ لاُتَّصَلَتْ قضيبا

وتستوقُفِهُ الصّورةُ الحركيةُ للسَّهم البصريةُ للِهَبِه، وهو ينطلقُ من قوسِهِ إلى هدفه:(67)
يريكَ النَّزْعُ بين القوسِ مِنْهُ وبين رَمِيّهِ الهـدفَ المهيبا

ويبرزُ الرامي وهو يُصْلحُ خَلَلَ السِّهام أو يُذَلّل عُطلها، فتعطيه بما يأمرُها به وتمتثل لأمره:(68)
كأَنَّ القِسيَّ العّاصِياتِ تطيُعهُ هوى أو بها في غَيْر أَنْمله زُهْدُ

وممدوحُهُ مِدقاقُ الإصابةِ بسَهْمِهِ، ذلك أَنّهُ يُنْفِذُ سَهَمَهُ في عُقْدةٍ ضَيّقةٍ في شَعَرةٍ سوداءَ ليس في النهار بل في رماية ليلية:(69)
وَيُنْفِذُه في الَعقِْد وهو مُضَيَّقٌ من الشَّعْرَة السوداءِ والليلُ مُسْوَدٌُ

وأبرز صورةً صوتيةً للسّهام وهي تترامى حوله، فيسمع لها حَفيفا من حواليه، يُطْلِقُها عليه غلمانُ أبي العشائر ممدوحه:(70)
وَمُنْتَسِبٍ عِنْدي إلى مَن أُحُُِّبهُ وللنَّبلِ حولي من يديه حَفيِفُ

وتتحّولُ دلالاتُ السّهامِ في صورٍ متعددة منها: ما تعادلُ المصائبَ المتتاليةَ التي تنكسَّرُ على فؤاده لكثرتها على محمل الاستعارة المكنية التشخيصية:(71)
رماني الدَّهْرُ بالأرزاءِ حتى فـؤادي فـي غِشاءٍ من نبال
فصِرْتُ إذا أصابتْنِي سهِامٌ تَكَسَّرت النِّصال على النِّصال
كما تتحوَّل السِّهاُم خيولاً تنَْطَلِقُ في الثّغور:(72)
رمى الدَّرْبَ بالجُرْدِ الجيادِ إلى العِدى ومَا عَلِموا أَنَّ السِّهامَ خيول

وينقلنا إلى "اشتباك بالسهام" بين سيفِ الدولة والروم، فنشهد عنده تغيّرا في نواميس السهام فإذا وابلُ سهامِ الروم على المسلمين طَلاَّ نَدِيا، وإذا بطَلِّ المسلمين على الرُّومَ وبالا غزيراً:(73)
إذا مَطَرَتْ مِنْهمَ وَمِنْكَ سَحاِئبٌ فَوابِلُهُمْ طَلٌّ وَطَلُّكَ وابِلُ

وأَمّا الرُّمح "سلاحُ المشاة والخيالة" الذي يوظف في مهاجمةِ العدوّ، والردِّ عليه دونما حاجةٍ إلى الالتحام معه(74)، فذو مترادفاتٍ منها: القَنا، والأسلُ، والسَّمْهَرِيَّةُ،وله أجزاءٌ يُستغنى بها عن ذكر الكُلِّ، كالكَعوب والسِّنان ونحوها، وله صُوَرٌ بارزةٌ في شِْعرِه بدلالات منها: صورته مُعظّمَةٌ عند الشاعر فُيِقْسِمُ به، ويُشبِّهُ ممدوحَه به على مَحْمِل البليغ:(75)
وَرُمْحي لأَنْتَ الرُّمْحُ لاما تَبُلُّهُ نجيعا، ولولا الَقْدحُ لم يُثْقِبِ الزَّنْدُ
والرُّمْحُ مَطْلعُ قصيدة:(76)
نُعِـدُّ المَشْرَفيـَّةَ والعوالـي وَتَـقْتُلُنـا المَنُـوْنُ بـلا قِتـالِ
والرُّمحُ الطويلُ خاصّة من أسلحةِ عبيد الشاعر للاغارة على خصومه:(77)
فَرَسٌ سابقٌ ورمـحٌ طـويلٌ ودِلاص "زُعـْفٌ "وَسْيفٌ صَقِيْلُ

وكما تَعَلّقَ بالرُّمح الطويل، فإن ممدوحَهُ تعلّق به مِثْلَهُ فهو من عشرين ذراعا، لِيُحِّققَ به مطامَحه متوحِّداً معه، راضيا به ومرضيَّا، على نحو تشخيصي، والذي نفهمه على أنّه ابرازُ الجمادِ المجرَّدِ من خلال الصور بالشعورِ والحركة والحياة: (78)
وأسْمَرُ ذيِ عِشْرينَ ترضاهُ وارِداً ويرضاَك في إيرادِهِ الخيلَ سّاقِيا(79)

وبالرَّمْحِ حمى سيفُ الدولة قلعة الحَدَثِ من هجومِ الروم، وخَلَطَ كُعوبّها في عظامهم:(80)
وحماها بُِكلِّ مطَّرِدِ الأكْـ(م) عُبِ جَوْرَ الزَّمَانِ والأوجَالا
وقوله:(81)
أَدَمْنا طَعْنَهُمْ والقتْلّ حَتـّى خَلَطّنا في عِظامِهِم الكُعُوبا

وينقلنا إلى مشهد دموي تتراسلُ الحواسُ فيه، حيثُ يُديرُ أطرافَ الرِّماحِ على الرومِ، بصورة حركية، فَتُدارُ معها كؤوسُ المنايا، لذيذة عند ممدوحه، بصورتها الذوقية يَنتشِي بها مستغنياً بها عن لِذةِ الخَمّر:(82)
يُديرَ بِأَطْرَافِ الرِّماحِ عَلَيْهِمِ كُؤُوْسَ المنايا حَيْثُ لاتُشْتهيَ الخَمرُ

وصورة رِماحِ سيفِ الدولة نافذةٌ في دروعِ الرّوم، وإن كانت مُحْكَمَةَ من انساج داود التـي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم:" أنِ اعْمَلْ سَابِغاتٍ وَقدّر في السَّرد"(83) فتتحوَّلُ الدرعُ على متانةِ صُنْعها برماحِ ممدوحهِ نسيجا من عنكبـوت:(84)
قواضٍ مواضٍ نَسْجُ داودَ عِنْدَها إذا وَقَعَتْ فيه كَنَسْجِ الخَدَرْنَقِ

وأما صورةُ السّيف فبدأها بمرادفاتٍ شتى وصنوفٍ مختلفة، منه الباترُ والحُسام، وسيفُ الهند، والنّزارية، والمَشرفيُة، كما وظّفَ صورا من أجزاءٍ منه كنِجاده، وقائمِه، وفِرندِه، وغِمده ونحوِها، وابرزَ صورَهُ بدَلالاتِ شتّى منها:
أن ممدوحه سيف الدولة من أرومة سيوف على محمل الاستعارة التصريحية :(85)
مَنْ للسُّيوفِ بأنْ تَكُوْنَ سَِمَّيها في أَصِْلِه وفِرِنْدِهِ ووفائهِ؟

وصورُ السّيف جليلةُ القَدّر عِنَده، فها هو يُقْسِمَ به، على أنَّ ممدوحهَ السيفَ لا السَّيف المسلولُ للضَّرْبِ في صورةٍ مُتَحوّلة:(86)
وسيفي لأََنْتَ الَّسْيفُ لا ما تَسُلُّهَ بِضَرْبٍ وما السَّيفُ مِنْه لَكَ الغْمِدُ

وها هو يتعلَّقُ بصورته، فهو صَانعُ المجد، والعلمُ تَبَعٌ له، وخادمه في زمن يَحمي السَّيْفُ عِزَّ الاّمةِ ومجدَها:(87)
حتى رَجَعْتُ وأقلامي قوائلُ لي المجدُ للسَّيفِ لَيس المجدُ للْقَلَمِ
اكتبْ بنا أبداً بُعْدَ الكتـابِ بـهِ فإنّمـا نَحْنُ للأسيافِ كالخَدَمِ
فترى مما سَبَق تَحَوَّلَ صورةِ السّيفِ إلى الكتابة في الأمجاد بالنَّصر، وبصورةِ تجسيمّيهَ تبدو الأقلامُ خَدَما للِسَّيْف: وَيُبِرزُ صورةَ المواجهةِ بالسَّيف في نهايةِ مِراحلِ المعركة كما يُسمي اليومَ "بالسلاح الأبيض" عند تطاعن الأقران ولا يَسْلَمُ من الكسر إلاّ السَّيفُ الصَّارِمُ في معركة الحَدَث:(88)
فَللّهِ وَقْتُ ذَوَّبَ الِغشَّ نارُهُ فَلَمْ يَبْقَ إلاّ صارِمٌ أو ضُبارِم

وقولُهَ مُمْتَدِحا الدورَ النهائيَّ للسّيفِ في ختامِ اجراءاتِ المعركةِ الدفاعيةِ:(89)
حَقْرَتَ الرُّدِيِنيّات حَتّى طَرْحَتها وحتّى كأَنَّ السَّيْفَ للُّرمْحِ شَاتِمُ
كما يتجلّى السَّيْفُ، في صورةٍ لونيّةً لَمْسيّةٍ ،بقطع رقابِ العدوّ على عَجَلٍ:(90)
أَعْجَلْتَ اَلْسُنَهُمْ بِضَربِ رِقابِهِمْ عـن قَوْلِهِمْ لا فارسٌ إلاّ ذا

والشّاعرُ نَفْسُهُ يَجْدَعُ بالسَّيفِ أُنوفَ الغادرينَ بهِ، في صورةٍ دمويّةٍ لَمْسيّةٍ نَفْسّيةٍ مُتشفيّة:(91)
أَعْدَدْتُ للغادريـنَ أَسْيافـاً أَجـْدَعُ مِنْهُمْ بِهِنَّ آنافاً

وإذا حَمَلْنا النَّصَّ حرفياً فنجدُ جَمْعي القِلّةِ "أسيافاً/ آنافاً" متعادلين صَرْفِيّا متضادين فعلياً، فأعدّ لِكّلًّ عُدَّتَهُ بِقَدَرٍ، مُلَوَّحا بما مضى من دورهِ القتاليِ، على بابٍ مِنْ ذِكْرِ سيرةِ السّيفِ الحربيّةِ:(92)
فإنَّ الحُسامَ الخضيبَ الذي قـُتِلْتـُمْ بهِ في يدِ القاتلِ
أَمامَ الكتيبـةَ تُزْهـى بِـهِ مكانَ السَّنانَ من العَاملِ
وها هو يشخّصُ وبإعزازٍ السَّيفَ اليماني، خاصّة ،فلو استطاع لأغمضَ عليه جفونَه وقايةً له وَحُبّاً:(93)
يا مُزِيْلَ الظَّلامِ عَنّي وروضـي يومَ شُرْبي ومعقلي في البَرَازِ
واليمانيِ الذي لو أسْطَعتِ كانت مقلتـي غمـدَه من الإعزازِِ

ويمايزُ بين السيوفِ فَيُعزُّ التصنيعَ العربيَّ، وَيَعُّدهُ أرهبَ من الهنديّ ذي "التصنيع الأجنبي":(94)
تهابُ سيوفُ الهِنْدِ وهي حَدائِدٌ فَكَيْفَ إذا كانتْ نِزارَّيةً عُرْبا
وَيْبرُزُ السّيفُ العربيُّ المشرفُّي رسالةً يَزجُّها إلى الرّومِ:(95)
ولا كُتْبَ إلاّ المَشرفّيةُ عِنُدَهُ ولا رُسُلٌ إلّا الخميسُ العَرَمْوَمُ

وذلك لأِنَّ للسَّيفَ العربيَّ المشرفيَّ هذا، لُغَةً يَفْهَمَها الدُّمُسْتقُ، على عجمهُ، لُغَـةَ السيَّـف:(96)
وَيَفْهَمُ صَوْتَ المَشَرفِيَّةِ فِيهِمِ على أَنَّ أصواتَ السذُيوفِ أعاجِمُ

وتستوقِفُهُ الصَّورَةُ السمعيّةُ لصليلِ السُّيوفِ، فيطربه صَليلُها، ولا يطربُهُ الغناء واحتساءُ الخمر، شأُنهُ شأنُ سيفِ الدولةِ ممدوحِه، الذي أجابَ أبا فراس، عندما دعاه لسماعِ الغِناءِ ؛"أنا مَشْغولٌ بِقَرّعِ الحوافرِ عن المَزاهر"(97) فيما يروى، فأصخْ إليه يقول:(98)
لأِحبّتي أنْ يملأوا بالصَّافياتِ الأكؤبا
وعليهِمِ أنْ يبذلـوا وعلـىَّ إلاّ أَشْرَبـا
حتى تكونّ الباتراتُ المسمعاتُ فأطرَبا

والشاعر نفسه ينتسب إلى عائلةِ السّلاحِ وأُسرتِها، فيتخذُ السّيفَ المَشرفيّ أبا له، والحربَ أُمّا، والرُّمْحَ أخا:(99)
وأنْ عَمَرْتُ جَعَلْتُ الحَرْبَ والدةً والسَّمْهَرِيَّ أخاً، والَمَشْرِفيَّ أبا

وَيَتَعنَّى إبرازَ صورةِ السيفِ اليماني خاصّة، وهو يغشى الرومَ المنهزمةَ، من ساحاتِ الوغى، أمامَ سيفِ الدولةِ، يغشاهمُ بالسيفِ، وتساندُه رمايةُ الرّماحِ والأسنّةِ، والرُّومُ يرمون بأسلحتهم فيما أفهمه "رماية إعاقة" وهم مولو الأدبارِ، ولعلّ اشتراكَه في المعركة، غيرَ مَرَّة؛ مع سيفِ الدولةِ، جَعل لشعرهِ فَضْلًا على مؤَرّخي الروم، مِمّنْ عاصروا حَرْبَ سيفِ الدولةِ، ومنهم "نيسفورُ فوكاس" الذي أشارَ إلى خِطّةِ الرّومِ في الانسحاب فقال:" والرّومُ كانوا يحاربون وهم في مرحلة الهزيمة"(100)، فَلْنُسَرِّحْ الخيالَ ساعةَ هزيمةِ الرُّوم، وهم يَرْمُونَ بأسلحتهمِ للإعاقة: وأسلحةُ المسلمينَ بأنواعِها تناكِفُهم رَمّيا بمدياتِها المختلفة: النَّبالُ للمسافاتِ البعيدةِ، والسيوفُ تواجِهُ الأنداد، والذُّعرُ يستشري فـي الـرُّوْمُ فيدوسون أَسْلِحَتَهُمْ فَزَعـاً: (101)
فَرَمَوا بما يَرْمُونَ عَنْه وأَدْبَرُوا يطؤون كَلَّ حَنِيّةٍ مَرْنانِ
يَغشاهُمُ مَطَرُ السَّحابِ مُفَصَّلا بِمُهنـَّدٍ وَمُثَقـَّفٍ وسِنانِ

وفي مشهد آخر، يُشَخَّصُ حسام سَيفِ الدولةِ شاكياً، من كَثْرَةِ تضراب يمينهِ، والجماجمُ على ضربه شاهدةٌ:(202)
وَصُنِ الحُسامَِِِِ ولا تُذِلْهُ فَإَّنهُ يشكو يَمِينَكَ والجماجمُ تَشّهدُ
وَيمايُز بين السَّمِيِّ والمسمَّى من السيوف، فإذا كانَ السَّيْفُ، سَيْفُ الدولةِ قاطِعا باترا في الميدان، فإنّ سيفَ الدولةِ ينمازُ عنه، أذ هو بارٌّ وَصَولٌ على نحوٍ من توظيفِ التّضاد:(103)
وما للسَّيْفِ إلاّ القَطْعُ فْعِلٌ وَأَنَت القاطعُ البَرُّ الوَصُوْلُ
4."صور من لباس المحارب ودلالاته"
يُعَدُّ اللَّباسُ الحربيُّ من أدواتِ القتالِ التي يَذِبُّ بها المحاربُ عن جِسْمِهِ ضرباتِ العدوّ، وبعضَ طَعْناتِهِ، ومن أبرزِ مَعْداتِ القتالِ التي وظّفها الشاعرُ مبتدئاً من لِباسِ الرأسِ إلى الجَسَدِ كُلّه هي: المِغْفَرُ الذي يُلْبَسُ على الرأسِ تَحْتَ البَيضةِ "الخوذة" ويستر العنق(104)، على ما نَفْهَمُهُ من مصطلحات:(105)
والدّروعُ الساترةُ للجِسْمِ بأنواعِها المختلفة ِ،ويستعينُ المحاربُ بِتُرْسٍ يَذُودُ بهِ طعنَ الخَصْمِ، فَكَيفَ وظّفها الشاعرُ؟ وما دلالاتُها؟.
أما المغفر فأبرزه بصورة حركية دموية ثاكلة الرأس: مغفرا ولا رأس عليه؛ لَقَدْ انقطعتَ في الفِتَنِ الداخلييةِ:(106)
تَرَكْنَ هامَ بَنيِ عَوْفًٍ وَثَعْلَبَةٍ على رُؤوسٍ بِلا ناسٍ مَغافِرُهُ

وأَمّا البَيْضةُ فهي من تجهيزات ِالمعْرَكَةِ التي يَعْرِضُها الجنديُّ مصفوفةً على الدروع، بلباسِ المعركةِ الكامل:(107)
وأنّ البَيْضَ صُفَّ على دُروعٍ فَشَوَّقَ من رآهُ إلى القتال
وهي بيضاء اللون على نحو توثيقي لها في عصره تلمع في القتام:(108)
أحجارُ ناس فَوْق أَرْضٍ من دمٍ وَنُجُومُ بَيْضٍ في سَمَاءِ قَتَامِ

وأَمّا الدّروعُ الواقيةُ لِلبَدَنِ فصنوفٌ مِنها، الدّلاصُ الزُّغْفُ، والجَوْشَنُ، والسَّربالُ، والسابغاتُ، فالدَّلاصُ الزُّغْفُ من عُدَّةِ الفارس على نحو من جاهزيته القتالية:(109)
فَرَسٌ سابِقٌ وَرُمْحٌ طوِيلٌ ودِلاصٌ زُغْفٌ وَسَيْفٌ صَقِيلُ
والدُّروعُ السابغاتُ يَلْبِسُها قادةُ الرومِ لِتَرُدَّ عَنْهَمْ طُعونَ الرَّماحِ وأسنّتها، ولا تُؤْثَّرُ فيها:(110)
تَرُدُّ عَنْهُ قَنا الفُرسانِ سابِغَـةٌ صَوْبُ الأسنْةِ في أثنائِها دِيَمُ
تَخُطُّ فيها العوالي لَيْسَ تَنْفُذُها كـَأَنَّ كـُلَّ سِنانٍ فَوْقَها قَلَمُ

ومنها السَّربالُ، مَلْبوسُ مَمْدُوحِهِ أبي شُجاعٍ الذي اكتفى بواحدٍ منه، لِثِقتهِ بِنَفْسِهِ في المعركةِ:(111)
عَلَيْه مِنْهُ سرابيلٌ مُضَاعَفَةٌ وَقَدْ كَفاهُ من الماذيَّ سِرْبَالُ

وَصُوَََرُ الدّرعِ عِنْدَ الشاعرِ تُعَدُّ "خطَّ الدفاعِ الثاني" فيما أفهمه منه؛ ذلك لأنَّ السَّيََف والرُّمْحَ هما "خط الدفاع الأول" عن جِسْمِ ممدوحهِ:(112)
فَدَعّه لَقى فإنّك من كِرامٍ جَواشِنُها الأسنَّةُ والسُّيوفُ

وانتقلَنا مع الشاعرِ إلى مشهدِ درعٍ سابريٍ، قويَّةُ الحَبْكِ، لا نَخْتَرِقُها الأسلحةُ وإنما تخترقُها النظرةُ النَّجلاء:(113)
مَثَّلْتِ عينَك في حُشايَ جِراحَةً فَتَشابَهـا كلِتاهمـا نَجْلاءُ
نَفَذتْ علـيَّ السَّابريَّ وَرُبَّما تَنْدَقُّ فيه الصَّعْدَةُ السَّمْرَاءُ

وفي مَوْقِـفٍ حَرْبِيّ يَعُدًُّ الشَّجَرَ الذي يَسْتَتِرُ الرَومُ به مُعادلا للدّروعِ بجامعِ الحِماية:(114)
فَلا سَقَى الغَيْثُ ما واراه مِنْ شَجَرٍ لَوْ زَلَّ عَنْهُ لَواَرَتْ شَخْصَهُ الرَّخَمُ

وانتقلَ إلى تحوّلاتِ الدَّرعِ في دلالاتِها، فَعَدَّ رسائلَ الرّوم، وهي تطلبُ الصُّلْحَ مِنْ سيفِ الدولة دُروعاً، تقيهم بأسَهُ، وبصورة تجسيميّة ضافية:(115)
دُروعٌ لِمَلْكِ الرُّومِ هذي الرَّسائلُ يَرُدُّ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَيُشاغِلُ
هِيَ الزَّرَدُ الضّافي عَليهِ وَلَفْظُها عَليـكَ ثَنَاءٌ سابغٌ وَفَضائِلُ

وتتبدّى الصورةُ اللونيّةُ لدروع الروم، وهي مُصْطَبِغَةٌ بدمائهم المُعَصْفَرة؛ وقد جَفّتْ عليهم، كألبسةِ النَّسوة مِن تَضرابِ السَّيفِ العربي:(116)
خنثى، الفحولَ، مِنَ الكُماهِ بِصَبْغَهٍ ما يلبسون مِنَ الحديدِ معصفرا

وأمّا التُّرْسُ "الذي يقي المحاربَ به نَفْسَهُ من سِهـامِ الأعـداءِ ورِماحِهـم"(117)، فَوَرَدَ بمترادفاتٍ منها المِجَنُّ، الذي يبدو ظهره ناتِئا، وَبْطُنهُ لاطِئا صُعودا وحُدوداً، يعادل به ظَهْرَ ناقته:(118)
في مِثْلِ ظَهْرِ المِجَنَّ مُتَّصلٍ بِمِثلِ بَطْنِ المِجَنَّ قَرْدَدُها

وإذا ضَنَّ مؤرخو العَرَبِ، من معاصري حرب سيف الدولة، في عهدِ الشّاعرِ علينا، بأوصافِ هذه الأدواتِ الحربيّة، وَالبسةِ فرسانِها ومحاربِيها، فإنّ المتنبي صَوَّرَها لنا على مشاهدَ مختلفةٍ، أبرزتِ الدراسةُ مشاهد منها،وهذا من فضلِ الأدبِ على التاريخ، الذي ضَرَبَ صَفْحا عنها، أولا وَفَضْلًا ثانيا على وصف كريمر لجنود سيف الدولة، بما قالُهُ فيهم: "بأنَّهم كانوا مغاويرَ مُحبّين للحَرْبِ، لا يكترثون؛ يَلبسونَ الجانبّياتِ، ولكنّهم يَضَعونَ على وُجوهِهِمْ مغافرَ من اللونِ المصفّح، سِلاحُهم الرَّماحُ الطَّوالُ، والتّروسُ الكبيرة، التي تُغطّي الجسمَ وأقدامُهم، من خَشَبٍ لَيّن"(119).
5."صور من الخيل ودلالاتها في شعره"
وتوقَّفَ الشاعرُ عِنْدَ صُوَرِ الخيل؛ توقفا لافتا، فََشْكَّلَتْ محوراً بارزاً في شِعْرِه، ولا غروَ فهي وسيلةٌ رئيسةْ للحربِ في أيامه، وواسطةٌ في كَرِّ الحروب وَفَرِّها، ولهذا نَقَلَنا مَعَهُ إلى مَشَاهدَ عَنِ الخيلِ، وأنواعِها والوانِها وتدريباتِها وقتالِها، ورموزِها، ودلالاتِها، فَأَخَذْنا مِنُها شرائحَ للتمثيل شاهدة.
فها هو يُطْلِعُنا على صَوَر الخيلِ، مدربةً، تُصِيخُ بِأَسْمَاعِها إلى نِداءِ الصَّرِيخِ لنجدته:(120)
وإنْ نَقَعَ الصَّرِيْخُ إلى مَكَانٍ نَصَبـنَ لَهُ مؤلَّلة دِقاقا

وأرانا صورةَ الجُرْدِ منها، قصيرةَ الشَّعْرِ، مدربةً: تتّبِعُ تعليماتِ القنا التي بين اذانها:(121)
وَجُرْداً مَدَدْنا بَيْنَ آذانِها القنا فَبِْتـنَ خِفافاً يِتَّبِعْنَ العواليا

وفي مشهدٍِ آخر نرى صُوْرَةً لخيلِ طويلةِ العُنُق، تَصْلُحُ لمعاقَرَةِ الموتِ، مُتَلّفتا إلى ما يستجادُ من الخيل(122) فيقول:(123)
أُفَكِّرُ في معاقـرةِ الَمنايـا وَقَوْدِ الخيلِ مُشْرِفَةَ الهوادي
والخيلُ نشيطةٌ تجاذِبُ فرسانَها الأعنّة، كَأَنّها أفاعٍ على أعناقها:(124)
نَجاذِبُ فُرّسَانَ الصَّباحِ أَعِنَّةً كأنَّ على الأعناقِ منها أفاعيا

واستجادَ صلابةَ الحافرِ، وهو الخبيرُ بالخيلِ في صورةٍ حِسّية؛ ندركُها بصورةٍ لَمْسِيّة؛ ذلك أنَّ علماءَ الفِراسِة، يستدلّونَ بحافرهِ الصُّلبِ على ما في باطنِه:(125)
تم عَرَض صورةً بصرية لمسية لحافره، وهو يَنْقُشُ حافياً على صُمِّ الصَّفا صَدْرَ البُزاة: (126)
تَماشى بأيد كُلّما وافتِ الصَّفاَ نَقَشْنَ بِها صَدْرَ البُزاةِ حَوافِيا

و تكتبُ حيناً بسنابِكها الحرفَ الاّولَ من آسم "علي" على الصّخر الجلمد إذا ما وقعت عليه(127):
أَولُ حَرْفٍ من أسمه كَتَبَتْ سناِبك الخيل في الجلاميد

ومن صورها في ميادين المعركة أنْ تطأ بسنابِكها رؤوسَ العدا المتساقطة، وتشربَ في جَماجمهم:(128)
كَأَنَّ خيولنَا كانت قديمـا تُسقـَّى في قُحوفِهِم الحليبا
فَمَرّتْ غيرَ نافرةٍ عَليِهْم تدوسُ بنِا الجَماجمَ والتريِبا

وهي خيولٌ عزيزةٌ أَلَفِتِ الانتصاراتِ، فأعتادت ألا ّتأكَل، الا من فَوقِ هِام العدا ، ولا تشربَ الا من غُدرانٍ مشوبةٍ بِدَم:(129)
تَعَوّدَ ألاَّ تْقَضَمَ الحَبَّ خَيْلُـهُ إذا الهامُ لمُ تْرَفعْ جُنُوْبَ العلاِئقِ
ولا تَردَ الغُدرانَ إلاّ وماؤُها من الدَّمِ كالرّيحانِ تحت الشَّقائِق

وفي ميادينِ المعركةِ تبدو عابسةَ الوجهِ، مُمَوَّهَةَ بعرقِها وغبارِ الصحراء، ممنطقةً على أوساطِها لِتَقْمَعَ الفِتَن:(130)
عوابسَ حَلَى يلبس الماء حُزْمَها فَهُنَّ على أوساطِها كالمَناطِقِ
وَينقلُنا إلى حربِ خيولٍ عربيةٍ بأخرى عربية، تنتصرُ خيولُ سيفِ الدولةِ، على خيولِ القبائلِ الثائرة؛ فتهربُ تُدمي بَعضُ أيديها بَعضا، في صورة دموية حركية:(131)
يُدْمَّي بَعْضُ أيدي الخيلِ بَعْضاً ومـا بِعُجـايةِ أثـرُ ارتهاش

وإذا اتسختْ قوائمُها بالوحلِ، فموعدها قريبٌ من دم الأعداء بصورة معنوية دمـوية:(132)
فَـدانـَتْ مَـرافـِقُهُنَّ الثّرى علـى ثِقـَةٍ بالـدم للغـاسل
والفَرَسَ من الفارس، فهي قوية لقوة فرسانها:(133)
وما تَنْفَعُ الخيلُ الكرامُ ولا القنا إذا لمْ يَكُنْ فَوْقَ الكرامِ كِرامُ
واعتادت أنْ تقتحمَ المعاركَ فُتُطْعَنَ في نحرها، لامن خلفها:(134)
مُحَرَّمَةٌ أكفالُ خيلي على القَنا محلَّلـَةٌ لِبّاتـُها والقـلائـدُ

والشاعرُ يُعِزُ خيلَه، فيوظِّفُ الكنايةَ عن صفةٍ لإبرازِ إعزازه، فهو يُنْعِلُ أَفراسَه عَسْجَدا من مالِ سيف الدولة:(135)
تركت السُّرى خَلفي لِمَنْ قلَّ مَالُهُ وأَنْعَلْتُ أفراسي بنُِعماكَ عَسْجَدا
والشاعر معروفٌ عند الخيل مألوفٌ لها:(136)
فالخيلُ والليلُ والبيداُء تَعْرِفُنـي والسَّيْفُ والرُّمْحُ والقِرطاسُ والقَلَمُ
ومن مصطلح التشخيص(137) يشخص فرسَه بعد أن رَفُهَ عَيْشُهُ، فَيُخَذِّلَهُ عن اقتحام المعارك: (138)
يَقولُ بِشِعْبٍ بـَوّانٍ حِصانـي أَعَـنْ هذا يُسارُ إلى طِعانِ
أبوكـم آدمٌ سـَنّ المعاصـي وَعَلـّمَكمُ مفارقةَ الجنِـان

ولكنَّ الشاعر في غير هذا الموقف،لا يعرف النعيم المقيم، ويمقتُ التوقّف عن إدراكِ المعالي ، وقلّما يَخْلُدُ إلى الفِراش كغيِره:(139)
وملّنيَ الفِراشُ وكان جَنبي يُمَلُّ لقاؤه فـي كُلِّ عـامِ
وما فـي طِبّه أنـّي جوادٌ أضرَّ بِجِسْمِهِ طُولُ الجِمام
تَعَوَّد أنْ يُغبِّر في السرايـا ويدخلَ مـن قِتام في قِتام

واستوقَفَهُ صهيلُ الخيلِ بصورتهِ في حَرَبٍ عَلنيّة، قادها سيفُ الدولةِ في حرب القبائل الثائرة، فلم يَحْسِبْ للكتمانِ حِسابا:(140)
تَصَاهَلُ خَيْلُـهُ متجاوبـاتٍ وما من عادة الخيل السِّرارُ

ولو لم تكن الحرب علنية، لاسكت الخيل حفاظاً على سرية المعركة كما قال الشاعر:(141)
إذا الخيلُ صاحَتْ صُيِاحَ النُّسو (م) رِحَزَزْنا شراسيفها بالجِذَمْ
6."صور من فنون الحرب"
وفُنُونُ الحرب محورٌ بارزٌ في شعرهِ، يُشهِدُنا عليها، تتناولها مشجَّرة على النحو الآتي:-

 

 

رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
يخوان اعطوني رأيكم ... generalo قسم رسيفر تايجر TIGER* T HD 6 01-29-2015 04:52 PM
جديد قناة ديوان على النايل سات abudyab 619 منتدى الترددات والقنوات الفضائية 2 08-10-2012 01:02 AM
شرح المشكل في شعر المتنبي ابو فارس منتدى الأبحاث والكتب والبرامج التعليمية 4 06-28-2011 06:47 PM
شرح ديوان المتنبي ابو فارس منتدى الأبحاث والكتب والبرامج التعليمية 6 06-20-2011 06:10 PM
صورة المحارب في ديوان المتنبي ابو فارس منتدى الأبحاث والكتب والبرامج التعليمية 11 09-03-2010 04:11 AM


الساعة الآن 04:34 AM
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions Inc.