العودة   منتديات الشبول سات > المنتديات العامة والمنوعة > منتدى الأبحاث والكتب والبرامج التعليمية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 10-13-2010, 04:13 PM
الصورة الرمزية ابو فارس
ابو فارس ابو فارس غير متواجد حالياً
 




معدل تقييم المستوى: 0 ابو فارس على طريق التميز
افتراضي قراءة في ديوان هواجس في خارطة الوطن

تأتي هذه القراءة بناء على وعد قطعته على نفسي في قراءة سابقة لديوان أحد الشعراء السعوديين ، وقامت جريدة المدينة في ملحقها الأدبي الأسبوعي جزى الله القائمين عليها بنشرة ، وهذا ما عهدناه فيها من تبن للأقلام الجادة الهادفة ذات العطاء الرؤى الموضوعية .
وكنت قد ذكرت بأنني سأتعرض في هذه القراءة لبعض الجوانب الفنية التي لم تتسع القراءة السابقة لطرحها ، وإن شاء الله ومد في أعمارنا ، ووهبنا من لدنه القدرة على تواصل العطاء ، سيكون لنا لقاء مع ديوان شاعر آخر من شعراء هذا الوطن المعطاء ، وستكون القراء فيه ذات طابع مغاير لما قدمنا في القراءتين الأولى والحالية ، فسوف نتناول فيها الخطاب الشعري بين التجربة الشخصية ، أو ما يعرف بالمضمون الشعري ، وما يعتور هذا الخطاب من إشكالية الإغراق في الرمز .
الحلقة الأولى :
أولا : التجربة البشرية والتجربة الشعورية :

أ ) مداخلة تنظيرية يليها التطبيق العملي من خلال القراءة :
عندما نتحدث عن التجارب الشخصية في الخطاب الشعري لأي شاعر كائن من كان لا يهمنا عرض هذه التجارب سواء كانت وطنية أو اجتماعية أو سياسية أو ذاتية في قالب مفصل للفكرة التي يطرحها الشاعر بقدر ما يهمنا الإلماح لهذه الفكرة أو ذلك المضمون ، لأن مضمون العمل الفني لا يحمله سطر أو بيت شعر في قصيدة ، وإنما يجب أن يكون مبثوثا في جزيئات العمل الفني كله ، وهذا يعني أن المضمون الشعري لا يظهر نصا ولا ينبغي له أن يظهر بل يؤمي إلى نفسه من خلال العاطفة والصورة معا .
و"عاطفة الشاعر في تجليها عبر الصور والمشاهد يحسن أن تتراءى من خلال الرمز والإيحاء والتفسير للصور والمشاهد ، لا أن تكون محدودة قاطعة ، ولا أن تكون شديدة الغموض حتى تصير لغزا مغلقا ".
ولدراسة التجربة البشرية لا بد من وقفة متأنية عند التجربة الشعرية ، "لأن التجربة البشرية جزء هام من أجزاء العمل الفني الشعري ، ولأنها هي التي تقودنا في النهاية إلى الإحساس بالتجربة الشعرية كتجربة تعتمد على طاقات فنية متعددة الجوانب منها الدلالية ، والإيحائية ، والتعبيرية والموسيقية .
فالتجربة الشعرية تستمد حين تستمد من الحياة ومن معاناة الشاعر وهمومه وقضاياه المصيرية المتباينة ، كما تستمد من ثقافته ، وهي حديث وجداني أو عاطفي ينبع من نفس صاحبه ومن عقله ومن كل حواسه ودواخله النفسية والفكرية الظاهرة والباطنة .
ومن هنا لابد للشاعر عند عملية الإبداع والخلق الفني أو أثنائها أن يعتصر نفسه وعقله كي يفجر فيها الأحاسيس والأفكار الحبيسة ، وحتى تنبض تجربته ، ولابد له أن يعاني فيها من حين تخلقها في قلبه إلى حين اكتمالها .
والتجربة الشعرية في حد ذاتها وقف على الشاعر ذاته لا على المضمون الشعري ذاته ، أو التجربة الشخصية ، لأن الشاعر هو الذي يستطيع أن يستنبط من الموضوع الصغير معاني لا تنضب من أحاسيسه ومشاعره ، والشاعر المبدع هو الذي لا يلتفت إلى ضوضاء العالم من حوله ، تلك الضوضاء التي تحجب عنه حقائق حياتنا الداخلية ، وإنما ينبغي عليه أن يسمع ضوضاء نفسه ومشاعرها ويطيل عندها الوقوف ليبدع بتجربته عملا أضفى عليه بأحاسيسه ومشاعره ما يجعله يستحق البقاء والخلود .
لذا يجب على الشاعر أن يتغلغل في أعماق الحياة ليستقي منها تجاربه الشخصية ذاتية كانت أم انعكاسا لهموم الوطن وغربة الإنسان وهمومه ، غير أن التغلغل في أعماق الحياة لا يعني التلاشي في خبايا النفس المعتمة على نحو ما نرى عند كثير من الشعراء الموغلين في الرمزية أو عند السرياليين والبرناسيين مثلا ، وإنما يحسن أن تكون التجربة الشعرية حديث نفس تفصح عن دواخلها وتبوح بمعاناتها ، وندرك من خلالها شخصية الشاعر الذي فجر في نفوسنا لواعج المعاناة من خلال ما ينسج ويبدع .
ومن خلال التنظير السابق للتجربة الشخصية والتجربة الشعرية ندرك تماما مدى العلاقة الحميمة بين التجربتين ، فهما توأمان متلاصقان ـ أن صح هذا التعبير ـ لا يسهل الفصل بينهما ، فالتجربة الشخصية هي محصلة الفكرة أو الهدف أو المعنى أو المضمون ، وكلها في رأيي مترادفات لا تواصل بينهما ، يبحث عنها الشاعر بين ركام الحياة وردمها وحجارتها وأساساتها ، المتبقية وحصونها المتهدمة ، بين شخوصها على مختلف سيماههم وأجناسهم وحبهم وكرهم ، وفنهم وعطائهم ، يبحث عنها بين أوضار المجتمعات المتناحرة من أجل الخير أو لزرع بذور الشر والقضاء على الفضيلة والمحبة والنبل والأخلاق ، واجتثاثها من جذورها لتنمو على أنقاضها كل علل المجتمع وأوبائه ، تلك بعض جوانب التجربة الشخصية .
أما التوأم الأخر فهو التجربة الشعرية ، أو ما يعرف أيضا بالتجربة الفنية ، فهي إلى جانب ما ذكرنا عنها بدءا لابد أن تكون دائما تجربة نفسية ، للعقل فيها أثر من العمل ، ذلك العمل الذي لا ينبغي أن يخرجها من عالمها الخاص بها ، عالم الرؤى والأحلام ، بل هي الأحلام ذاتها ، يجب على الشاعر أن يطلق لنفسه العنان يحلق في عالمه الخيالي خيال ينسى فيه عالمه الحقيقي ، ويحملنا معه على أجنحة هذا الخيال إلى عالم جديد نحس فيه بدفء لذة غير مألوفة في عالم الواقع .
غير أن هذا الخيال مهما كان مجنحا وقويا بما يتولد عنه من شتى الصور الفنية خصوصا إذا كان خيالا عفويا غير متكلف يضفي على العمل الفني لمسة من الجمال الحقيقي لا تخفي خلفها التجربة الشخصية وإنما تتواءم التجربتان لتشكل مع عناصر الخطاب الشعري الأخرى قمة هرمية من الإبداع الفني ، أما إذا أعيت الشاعر هذه المواءمة بين التجربتين وأخذ يطلق لخياله العنان لا يحلق بنا في عوالم الجمال بل لينقلنا إلى متاهات من تراكيب اللغة وبناها وتداعياتها التي لا نرجع منها إلا بخفي حنين فالأمر جد مختلف .

ب ) القراءة من خلال التنظير للتجربة الشخصية :

في بداية القراءة لا أريد أن أصف الديوان وصفا مسطحا محجما لأن ذلك في نظري لم يعد يهم القارئ بقدر ما يهمه المحتوى ، وإن كان بمقدورنا القول بأن الديوان صدر في عام 1988 م في طبعته الأولى ، ولعله النتاج البكر للشاعر ، ومن هذا المنظور لا نريد أن نحكم عليه الحكم النهائي القاطع من خلال القراءة لديوان يتيم ، لأنه وبكل تأكيد سيكون في جعبته الكثير والكثير من العطاء ، وربما سيكون له إبداعات أخرى يوائم فيها الشاعر بين الخطاب الشعري ومقوماته الفنية المتعددة .
بدأ شاعرنا ديوانه بقصيدة عنوانها : " كيف صعد ابن الصحراء إلى الشمس " يقول في مطلعها :
أصعد يا حبة قلبي ، أصعد
أصعد كي تنفض عن عينيك غبارهما فترى ..
وتماسك أن كنت ضعيفا ، ساقك تسند ساقك ،
وذراعاك تمدانك بالعزم ، ووجهك ينفح بالماء ،
إذا ما أصبح بين الماء وبينك قافلة من نوق .
نقول بادئ ذي بدء أن التجربة الشخصية من خلال الجملة الشعرية السابقة واضحة الدلالة ، فالشاعر في تقريرية عفوية تعتمد على تداعي كثير من الجمل الإنشائية المتكررة بدءا من العنوان وانتهاء بالكثير من الجمل الشعرية التالية التي يبدؤها بقوله :
وتماسك حين ترى ..
سترى ما لا عين نظرت ، ما لا أذن سمعت
ما لم يوصف في الكتب المنسوخة عن عاشر جد ..
وغيرها من الجمل الأخرى التي تناثرت في ثنايا النص ، أراد الشاعر أن يؤكد بدعوته هذه وحثه لابن الصحراء على الصعود إلى الفضاء الخارجي ، بأن هذه الصعود ما هو إلا نقلة حضارية متطورة ومتجددة لم تكن بمنأى عن ابن الصحراء الذي ولد على سفوحها المباركة وتمازجت دماؤه العربية الأصلية مع حبات العرق التي تنضح من جبهته التي طالما لوحتها حرارة الشمس وأكسبتها لونها الأصيل المتميز
والشاعر هنا في محاولة انطلاق جادة كما انطلق ابن الصحراء إلى الشمس ، يحاول أن ينطلق من داخل سدومه ويتحرر من قواقعه التي كونتها ترسبات الزمن الغابر ليرى نور المستقبل المستمد من ضوء الشمس ، فشاعرنا متعطش إلى تجاوز حصار الأرض وحصار الزمن ليرقى إلى أفاق أكثر رحابة وأعظم اتساعا في عطائها وتحررها ، ذلك الفضاء الذي تحلل فيه الأشياء من قيودها وتتفتح فيه النفس لتتزاوج مع النجوم في انعتاقها .
أستمع إليه يقول في إصرار عنيد لصعود ابن الصحراء إلى الشمس :
كل الناس عطاش ..
فاصعد يا حبة قلبي ، اصعد
وتوسد صوتي حين أناديك لتصعد ..
اخترتك أنت ..
لست الظاهر بينهمُ ولست السافر
اصعد كي تفتح عينيك على الصالح والفالح ..
والكالح والفارح..
والتارح والجارح والمجروح ..
كل الأرض جروح ...
وفي قناعتي الشخصية أن الصعود إلى الشمس في عرف الشاعر ، ليس ذاك الصعود الحقيقي بمفهومه العلمي والعملي الذي ينشده العقل الواعي ، وإنما هو تحليق في عوالم الكون وأنعتاق من ذات نفسه القابعة في محيط الأرض بما فيها من تناقضات وآلام وأحزان وأتراح وأفراح ، انه تهويم في سحب اللامحسوس للنظر إلى الواقع المؤلم الذي يعيشه الإنسان العربي من جهة فوقية علوية تستقطب من منظورها كل هموم الحياة ومشاكلها ، وتستبطن جراحات المجتمع ونزفه وتستقرئ هواجسهم وركام سحبهم الداكنة ، ومن هنا ندرك هذه التقابلية اللفظية في تراكيب الخطاب الشعري وبنيته اللغوية ، ومدى انعكاسها على رؤى الشاعر المادية والمعنوية على حد سواء .
استمع إليه يقول عن هذا اللون المميز الذي يكسب كل الأشياء لونا بلون وجه ابن الصحراء الذي لفحته الشمس ولوحته بحرارتها فامتزج بتراب صحرائها معجونا بالعرق المتفصد من جبهته ولما يجف بعد :
رماديا كان الحرف ، اللغة ، الميزان ، الإنسان ، الطائر ، والتاجر والصاغة والنسوة إذ يتوالدان وما ينجبن رمادي الوجه ،
الساحل والقاحل من يفني في أودية متشاجرة ،
من يمشي ، من يتبخر ، والموت رمادي فاصعد ..
اصعد يا حبة قلبي ، اصعد ..
أنت المدعو : سليل الصحراء ، المتوارث مجد الضرب
علانية في غاربها ،
بدو في بدنك يبتردون عطاشى ،
ورعاة الأرض على ظهرك يرعون ..
هكذا انتهت الجملة الشعرية متطاولة البناء شامخة المضمون عميقة التجربة ، رصد فيها الشاعر كما هائلا من الرؤى الداخلية المركبة التي تسيطر على أعماقه ، هذه الرؤى التي تتحول في لغته إلى نوع من الازدواجية المتسلطة التي لا تنفك ملازمة لخطابة الشعري ، فهو ينقل لنا بحدسية الشاعر المرهف الشفاف الذي أرهقته مواجع الناس وهدته أحلامهم وطموحاتهم الذي لونتها حرارة الشمس في صحراء أعمارهم وأكسبتها هذا اللون المتميز الذي أصبح رمزا يفتخر به ابن الصحراء ويوسم به الحرف واللغة والميزان والإنسان والطائر والتاجر .. وكل مكونات الحياة وعناصرها وصانعيها .
أنه ينقل لنا هذه الصورة التقابلية في شكل تضادات لغوية ومتساوقة في تناغمها الموسيقي والمتداخلة في جزئيتاها ومكونتها بحيث لا يمكن الفصل بين عناصرها لأنها متوحدة مترابطة إلى حد التمازج استمع إليه قائلا :
أنت الباطن والصاعد في الأرض
والنازل في الرمل ، المرتحل على زلزلة في القلب ، المدثر
بالرغبات الأولى : أن تعرف
وترى وتشك ..
هذا الشك يقين ..
ويتواصل الشاعر والوطن أغنية بتردد صداها في مسامع الزمن وتنبعث أنغامها ترانيم صداه لا ينقطع ، أنها المعاناة ومشاق الارتحال عبر مرافئ الحياة ، أنها "هواجس في طقس الوطن".
في هذه القصيدة تبدو على شاعرنا ملامح التعب ، وقد أثقلت الهموم والمواجع كاهله ، وطفحت أعماقه بأحاسيس الأسى والحزن على وطن يبحث فيه الشاعر عن متسع له ليستريح من عناء الارتحال الموجع ، إن الشاعر رغم امتداد الوطن وترامي أطرافه يبحث عن محطة ليحط فيها رحاله ليريح ويستريح من صراعه مع الغربة والعزلة الذاتية التي تملكت عليه نفسه ، استمع إليه يئن معتذرا إلى الوطن :
قد جئت معتذرا ما في فمي خبر
رجلاي أتعبها الترحال والسفر
ملت يداي تباريح الأسى ووعت
عيناي قاتلها ما خانها بصر
إن جئت يا وطني هل فيك متسع
كي نستريح ويهمي فوقنا المطر
وهل لصدرك أن يحنو فيمنحني
وسادة ، حلما في قيظه شجر
إن هموم الشاعر وموجعه وهواجسه التي لا تنتهي تصدر عن معينين ، معين الذات التي أقلت بالألم وتباريح الأسى وأرهقها الترحال والسفر بحثا عن ملاذ آمن بعد طول اغتراب داخل الأنا ، ومعين أكثر التصاقا من ذات الشاعر نفسه ـ أن صح التعبير ـ إنه المعين الأساسي الذي يمده بكل الطاقات والأحاسيس إنه الوطن بكل ما تحمل هذه البنية في أحشائها من دلالات ، ومن خلال هذه الآلام والمواجع التي تعشش في دواخل الشاعر وتكاد تصهره في حمئها المجنون ندرك مدى التصاقه بالوطن وتوحدهما معا ، هذا الوطن الذي غدا دما تنبض به شرايينه ، هذا الوطن الذي هو هاجسه وهمه ومأواه وملاذه عندما تضيق به السبل ويقفل راجعا من عناء الرحلة ووحشة الاغتراب ، غير أن الشاعر يطمح في عطاء الوطن ويتلهف في تشوق أن يمنحه الدفء والحب والحنان الذي يفجر في أعماقه أهازيج أوشكت أن يتلاشى صداها فها هو يقول :
يا نازلا في دمى أنهض وخذ بيدي
صحوى والتم في عينيّ يا سهر
وأجمع شتات فمي واغزل مواجعه
قصيدة في يد أسرى بها وتر
وأفضح طفولتي الملقاة فوق يد
تهتز ما ناشها خوف ولا كبر
وصب لي عطش الصحراء في بدني
وأسكب رمال الغضا جوعا فانحدر
إن عشق الشاعر لوطنه وحبه له وتلهفه عليه إلى حد الهوس والاستبداد ، هذا الوطن الذي يسري حبه في عروق أبنائه وتختلط ذرات ترابه بكل ذرة من أجساد بنية دفع الشاعر بمطالبة الوطن أن يمنحه البصر الذي يراه به والأوردة التي يسري فيها حب الوطن مع دمائه ، وما هذا الإلحاح في الطلب وذلك التوسل إليه إلا شاهد من شواهد كثيرة على مدى التصاق الشاعر بوطنه وغيرته وحبه المتفاني له ، استمع إليه هاتفا :
أيها الوطن المتعالي بهامات أجدادنا
أيها المستبد بنا لهفة وهوى
أيها المتحفز في دمنا
والمتوزع في كل ذراتنا
أعطنا بصرا كي نراك ، وأوردة كي تمر بنا ،
فيه نلقى مساء جميلا ، قرنفلة في عرى ثوبك الأبيض المتسربل
ضوءا لنمشي أيا أيها الوطن المتعالي إذا ما ارتدانا
الظلام إليك .
ومن خلال الجملة الشعرية السابقة ندرك مدى قدرة الشاعر على استخدام لغة الخيال الشعري استخداما جميلا واعيا ، فقد راوح بين تلك القوى السحرية والتركيبية وبين الإرادة الواعية ، وفي داخله ثم التوحد بينه وبين المعطيات الخارجية المتمثلة في الوطن بكل أبعاده وتفاصيله وعشق الشاعر له ـ وعن طريق تجمع هذه المستوعبات والمشاعر ـ أستطاع الشاعر أن يعمل خياله من أجل خلق بناء فني خيالي متكامل نراه في استبداد الوطن به حبا ولهفة ، كما نراه متحفزا في دمه ومتوزعا في كل ذرات جسمه ، فاستعارة الشاعر في قوله :
أيها المستبد بنا لهفة وهوى
أيها المتحفز في دمنا
والمتوزع في كل ذراتنا
لا تقف عند حد المشاكلة والتزام وجه الشبه بين جزئيها ، وإنما تتعدى هذا إلى مجموعات من الدلالات والسياقات العديدة غير مجرد الدلالة المنطقية والذهنية ، ومع هذا فإن هذه الدلالات وإن كانت قريبة التأني ومستنتجة بطريقة عقلية مدركة إلا أنها تعتمد فيما تعتمد على نشاط خيالي مركب واسع وخلاق في عملية تجميع الصورة الفنية ولملمة شتاتها ، استمع إليه يقول في جملة شعرية أخرى من نفس القصيدة مخاطبا الوطن وقد تصور فيه أنسانا يتمتع بكل المدركات :
أنني واقف وخلف ظهرك مفتتحا وجعي باعتذار المحبين
حين يطول النوى
خاشعا من محياك يا وطنا نتعالى به ، غيمنا إذ
يجف بنا الورد ، سلوتنا في مساء التغرب
في الصبح وردتنا ورغيف الفقير ، وأنت البسيط البسيط
فقل للعصافير إن الفضاء مديح أتساع
لعينيك كي لا تطير ، فإن العصافير خائفة ،
فكن وطني ممعنا في الهدوء لكي تعتلى ذروتك .
ويبلغ تواصل الشاعر والوطن الذروة وجدا وحبا وغيرة وهموما ومواجع ، فينطلق من حدود الوطن الأم وأطره إلى مدى أرحب وأوسع يهيم في رحاب القومية والعروبة ينسرب في تجاويفها ويذوب في حبها إنه الوطن العربي الكبير بكل معطياته يكشف رموزه وأوسمته ويبرز معاناته وآلامه منصهرا في أتونة إلى حد التلاشي أنها أسطورة وملحمة الشعب الذي نفض عن عينيه الغبار وحطم كل أسوار الأغلال وهب منتفضا سلاحه الإيمان وعدته الحجر ، هذا الذي أصبح سيد وقتنا هذا ورمزا من رموز الشعب الفلسطيني الصامد في وجه الصهيونية .
أنها قصيدة الحجر الذي استطاع فيها الشاعر بإحساساته المرهفة وعاطفته الصادقة ونبل تجربته أن يدرك ويستشعر بحدسه وتميزه الحسي وسبره لأعماق التجارب الإنسانية أن يصل إلى شيء من الحلم الذي غدا حقيقة ، إنها قصة الحجر الفلسطيني استمع إليه يهزج متفاخرا
هو الحجر الفلسطيني
سيد وقتنا هذا ..
وأجمل ما يزف به الحبيب إلى الحبيبة
يبارك أرضها رب السموات الجميلة ..
ما خانت ولا لانت
ولا أعطت مفاتنها لقبعة الصديد
أحبك يا زمان الرفض أحبك
في هذه السممفونية الرائعة ، وكم هي رائعة حقا لا أقولها مجاملا ، ولكني أقولها بحدسية الشاعر الذي تميز أذنه السمين من الغث والجيد من الهزيل ـ يكشف الشاعر عن قيمة الحجر الذي كان ولا يزال لا قيمة له في كل الأحوال والظروف أعني تلك القيمة التي جعلت منه رمزا يبهر أنظار العالم في كل مكان .
إن انطلاقة الشاعر في هذه القصيدة ، ومن خلال التداعيات التي مرت فيها القضية الفلسطينية ـ بدءا بنكبة 1948 م وانتهاء بانتفاضة الشعب المحطم الذي هب متفجرا كالبركان ليدمر كل ما حوله سلاحه الحجر ، الحجر الرمز ، الحجر الفلسطيني ، يرى أنه لا جدوى لأي عمل وطني دون أن يتفجر الداخل ، من داخل الوطن وداخل المواطن .
فالحجر الفلسطيني من منظور الشاعر ، هذا المنظور الواعي المدرك لحقيقة الأشياء أصبح سيدا لهذا الزمان ، وهو أجمل ما يمكن أن يقدمه حبيب إلى حبيبته في ليلة زفافها ، أنه الرمز الذي تعيش من أجله الأجيال المتواصلة ، أستمع إليه يقول :
أحبك يا زمان الرفض أحبك
أول الإسراء أنت وأخر الإسراء : أسراء الحجارهْ
للحجارة والبيوت قلادة من رفض
هو الحجر الفلسطيني
سيد من يجئ ومن يروح ،
ومن سيصرخ بين مبنى الأمن والفيتو .
ونحن عندما نقرأ هذا الخطاب الشعري قراءة متأنية مدركة نستشعر مدى حضور العاطفة الصحيحة فيها ، عاطفة يصدر فيها الشاعر عن طبع إنساني صحيح ، ويعبر عن أفكار بعيدة الغور متنحيا عن التسطيح الذي لا يبعث في النفوس غير السأم والملل ، كما نلمس فيها رحابة تلك العاطفة وسعتها وتوجهها ، فالشاعر يعبر عن إحساس إنساني شامل وموقف وطني متفتح ، استمع إليه يقول :
تحدث مرة حجر فلسطيني يسأل جاره العربي
هل مرت بسمعك قصة الحجر الفلسطيني !
أغنية الشموس إلى الشموس
من شاف الأغاني ؟
ومن طارت بداخله الحمامة ؟
إن الشاعر يوائم بين الرفض وحب السلام ، رفضه لكل عناصر الظلم والاستبداد ووأود الحريات في النفوس وقتل الأمل في الذات الإنسانية ، وعشقه للسلم والمحبة والألفة والوئام ، إنه تشاكل يتنازع أحاسيس الشاعر وعواطفه فيفجرها غضبا وحبا في آن واحد .
ويمسخنا زمانك أيها "الفيتو"
يحولنا إلى حجر بليد يشبه ذلك الحجر الشهيد
هو الحجر الفلسطيني : زاد الكف ، رقم حسابها
السري ، تاريخ تحرك نحو أبواب البلاد ودق
أقواها وصاح به أنا الحجر الفلسطيني
فالقصيدة في مجملها تدرج من الاستهلال إلى الخاتمة ، وعناية الشاعر بالمشاعر الداخلية ، وحصره للصور الحسية ـ ممثلة في الحجر الفلسطيني والصبار والبيوت والحبيب والحبيبة ، والتي غدت كلها رمزا للعطاء الفلسطيني المتواصل ضد الظلم والاضطهاد ـ في تلك الدلالات النفسية وإيجازها بتكثيف التجربة الشعرية دون الميل إلى العبارات المترهلة الفضفاضة ، أو الجمل الحماسية الرنانة ذات الجرس الخطابي فقد بلغت ذروة الصدق النفسي ، والمهارة الفنية المتأصلة .


الحلقة الثانية :
ثانيا: إشكالية الإغراق في الرمز مداخلة تنظيرية بادئ ذي بدأ يحسن بنا إن نلمح ولو بإيجاز شديد إلى مفهوم الرمز أو الغموض في الخطاب الشعري حتى تتسنى لنا عملية التطبيق عند قرأتنا لبقية قصائد الديوان التي أتسمت من منظورا بالرمزية والغموض .

 

 

رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
يخوان اعطوني رأيكم ... generalo قسم رسيفر تايجر TIGER* T HD 6 01-29-2015 04:52 PM
شاهد خارطة الاقمار الصناعية حول العالم منيب الشبول منتدى تركيب الأطباق واللواقط وصيانتها 8 01-18-2013 02:02 AM
شرح ديوان المتنبي ابو فارس منتدى الأبحاث والكتب والبرامج التعليمية 6 06-20-2011 06:10 PM
قراءة نقدية في ديوان الشعر السعودي المعاصر ابو فارس منتدى الأبحاث والكتب والبرامج التعليمية 3 10-14-2010 02:13 PM
قراءة نقدية في ديوان تفاصيل في خارطة الطقس ابو فارس منتدى الأبحاث والكتب والبرامج التعليمية 3 10-14-2010 02:11 PM


الساعة الآن 09:25 AM
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions Inc.