بطولة حذيفة بن اليمان
إن المستقرئ لأحداث السيرة النبوية - لا سيما قسم الغزوات الذي يمثل النشاط العسكري منها - يدرك ببعض التأمل أنه كان هناك فريقٌ من الصحابة الأجلاء يكلفهم النبي صلى الله عليه وسلم بتنفيذ بعض المهمات الخاصة؛ تأمينًا لدولة الإسلام في المدينة، مما يُظهِر واحدًا من الجوانب التنظيمية الدقيقة في جهاز الدولة النبوية.
وهذه واحدة من تلك المهمات التي تتطلب بطلًا من نوع خاص، رُزق من الشجاعة والبسالة ما يفوق الكثيرين من أقرانه.
تفاصيل المهمة:
♦ توقيت المهمة: غزوة الأحزاب - شوال - 5 هـ.
♦ الوقت الذي استغرقته المهمة: جزء من الليل.
التعريف ببطل المهمة:
هو حذيفة بن اليمان العبسي، اشتُهر رضي الله عنه بأنه كاتمُ سرِّ الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرَّ إليه بأسماء عدد من المنافقين وأمره أن يكتم ذلك، وكان رضي الله عنه من كبار الصحابة، شهد الخندق - وكان له بها ذكرٌ حسن - وما بعدها، وهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فخيَّره بين الهجرة والنصرة، فاختار النصرة، وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا وقُتل أبوه بها.
وشهد الحرب بنهاوند، فلما قُتل (النعمان بن مقرن) أمير ذلك الجيش، أخذ الراية، وكان فتح همذان والري والدينور على يده، وشهد فتح الجزيرة، ونزل (نصيبين)، وتزوج فيها.
وكان يسأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الشر؛ ليتجنبه، ولم يشهد بدرًا؛ لأن المشركين أخذوا عليه الميثاق ألَّا يقاتلهم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل يقاتل أو لا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((بل نَفِي لهم، ونستعين الله عليهم)).
استعمله عمرُ على المدائن، فلم يزل بها حتى مات بعد قتل عثمان وبعد بيعة عليٍّ بأربعين يومًا، وذلك في سنة ست وثلاثين[1].
جو الغزوة كما صورته سورة الأحزاب:
تعد غزوة الأحزاب من أشد الغزوات التي مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه خطرًا على كيان الدولة النبوية؛ وذلك لمجموعة أسباب:
(1) تكالب الأعداء من فوقهم ومن أسفل منهم؛ أما من فوقهم فمن جهة الشمال؛ حيث اجتمعت قريش وغطفان في عشرة آلاف مقاتل، وأما من تحتهم فمن الجنوب؛ حيث خانت بنو قريظة ونقضت العهد.
(2) التعب البدني الذي لاقاه الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة في سبيل حفر الخندق.
(3) الجوع الشديد، والبرد القارس المصاحبان لأحداث تلك الغزوة.
(4) الدعايات المسمومة التي بثتها وروَّجت لها حركة النفاق في المدينة؛ في سبيل الوصول لتفريق الصف الإسلامي الموحد تحت القيادة النبوية، وقد صوَّرت سورة الأحزاب إحدى هذه الدعايات؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا ﴾ [الأحزاب: 12 - 15]، وفي السورة أيضًا تفصيل دقيق للحالة النفسية التي وصل إليها المؤمنون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 9 - 11].
كان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يمثل في هذه المهمة الخاصة سَرِيَّةً وحده؛ إذ اقتضت طبيعة تلك المهمة أن يقوم بها بمفرده؛ قال ابن الأثير في ترجمة حذيفة: "أرسله النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب سرية؛ ليأتيه بخبر الكفار"[2].
لقد قام حذيفة بدور سرية ليلية كاملة؛ لاستطلاع أخبار العدو، ونقلها للقيادة النبوية، فما تفاصيل تلك المهمة؟
مهمة خاصة ليس لها إلا حذيفة:
لقد صوَّر حذيفة تلك الليلة الرهيبة من حياته التي قام فيها بتنفيذ تلك المهمة الخاصة وحده، في ظروف بالغة التعقيد والصعوبة، وذلك على المستوى العام للمسلمين، وعلى المستوى الخاص لبطل المهمة نفسه؛ إذ كان رضي الله عنه من أفقر المسلمين الذين شهدوا تلك الغزوة؛ إذ لم يكن يلبس - رغم البرد القارس والريح العاصف - إلا ثوبًا قصيرًا لا يكاد يجاوز ما دون ركبتيه.
وتحمل رواية مسلم المشهد الكامل؛ فقد روى في صحيحه عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: ((كنا عند حذيفة، فقال رجل: لو أدركتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلتُ معه وأبليتُ، فقال حذيفة: أنت كنتَ تفعل ذلك؟ لقد رأيتُنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب، وأخذتنا ريح شديدة وقُرٌّ[3]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا رجلٌ يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟ فسكتنا فلم يجِبْهُ منا أحد، ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟ فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟ فسكتنا فلم يجبه منا أحد، فقال: قم يا حذيفة، فأتِنا بخبر القوم، فلم أجد بدًّا إذ دعاني باسمي أن أقوم، قال: اذهب فأتني بخبر القوم، ولا تَذْعَرْهم عليَّ[4]، فلما وليتُ من عنده جعلت كأنما أمشي في حمَّامٍ حتى أتيتُهم، فرأيت أبا سفيان يَصْلي[5] ظهره بالنار، فوضعتُ سهمًا في كبد القوس[6] فأردتُ أن أرميَه، فذكرتُ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا تذعرهم عليَّ، ولو رميتُه لأصبتُه فرجعتُ وأنا أمشي في مثل الحمَّام[7]، فلما أتيتُه فأخبرته بخبر القوم، وفرغتُ قُرِرْتُ[8]، فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضلِ عباءةٍ كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائمًا حتى أصبحت، فلما أصبحت قال: قُمْ يا نومانُ[9]))؛ [مسلم (1788)].
ذاكم هو حذيفة بطل مهمتنا، خرج في هذه المهمة الليلية وحده زاحفًا إلى صفوف العدو؛ ليعرف خبرهم، وفيهم غير واحد من الفرسان الشجعان، لكن شجاعته الإيمانية منحته قدرة على الثبات، فقد وقع اختيار القيادة النبوية عليه دون غيره، فهل يمكن أن يتخلف؟
إن هذا المشهد من مشاهد السيرة العطرة قد ضمَّ في أطوائه الكثير من الدروس، وهاك بعضها:
(1) وجوب اتباع أوامر النبي القائد صلى الله عليه وسلم مهما ضمت بين ثناياها من صعوبة وخطورة.
(2) لا يعتبر سكوت الصحابة الأجلاء في معرض ترغيب النبي صلى الله عليه وسلم خوفًا أو جبنًا، بل كان تقديرًا دقيقًا للموقف البالغ الصعوبة والتعقيد، فلا يريد أحدهم أن يؤتى الإسلام من قِبَلِهِ.
(3) من كان في سبيل الله سيره فعلى الله مؤونته، وهذا واضح؛ حيث إن حذيفة كان مقرورًا، لكنه بمجرد أن خطا أول خطوة في سبيل تنفيذ المهمة التي كلفه النبي صلى الله عليه وسلم بها.
كان كأنما يمشي في حمَّام، فمهما كنتَ سائرًا في سبيل الله أو داعيًا، أو طالب علم، أو غير ذلك - فأنت في العناية الإلهية؛ وقد قيل:
وإذا العنايةُ لاحظتك عيونُها *** نَمْ فالمخاوفُ كلُّهنَّ أمانُ
(4) وجوب التزام تعليمات القيادة المؤمنة: ((ولا تذعرهم عليَّ))، وإلا فالعواقب وخيمة.
(5) وجوب الاتصال بواهب النصر، وهازم الأعداء، سبحانه وتعالى، وذلك من خلال قيام الليل، والإكثار من التضرع على أعتابه.
(6) الرحمة بالناس وتقدير الحوائج الإنسانية كالراحة بعد التعب، والشبع بعد الجوع، فليست إرهاقًا على المسلمين، إنما هي رحمة مهداة، والله أعلم.
المصدر / الالوكه