عرض مشاركة واحدة
قديم 03-10-2010, 09:56 PM   رقم المشاركة : 26
محمد قطيش
 
الصورة الرمزية محمد قطيش






محمد قطيش غير متواجد حالياً

محمد قطيش سيصبح متميزا في وقت قريب


افتراضي


وفي قوله صلى الله عليه وسلم : " فإن الله يطعمهم ويسقيهم
" معنى لطيف زائد على ما ذكره الأطباء لا يعرفه إلا من
له عناية بأحكام القلوب والأرواح ، وتأثيرها في طبيعة البدن ،
وانفعال الطبيعة عنها ، كما تنفعل هي كثيراً عن الطبيعة ،
ونحن نشير إليه إشارة ، فنقول : النفس إذا حصل لها ما
يشغلها من محبوب أو مكروه أو مخوف ، اشتغلت به عن
طلب الغذاء والشراب ، فلا تحس بجوع ولا عطش ، بل ولا
حر ولا برد ، بل تشتغل به عن الإحساس المؤلم الشديد الألم ،
فلا تحس به ، وما من أحد إلا وقد وجد في نفسه ذلك أو شيئاً
منه ، وإذا اشتغلت النفس بما دهمها ، وورد عليها ، لم تحس
بألم الجوع ، فإن كان الوارد مفرحاً قوي التفريح ، قام لها
مقام الغذاء ، فشبعت به ، وانتعشت قواها ، وتضاعفت ،
وجرت الدموية في الجسد حتى تظهر في سطحه ، فيشرق
وجهه ، وتظهر دمويته ، فإن الفرح يوجب انبساط دم القلب ،
فينبعث في العروق ، فتمتلئ به ، فلا تطلب الأعضاء حظها
من الغذاء المعتاد لاشتغالها بما هو أحب إليها ، وإلى الطبيعة
منه ، والطبيعة إذا ظفرت بما تحب ، آثرته على ما هو دونه .




وإن كان الوارد مؤلماً أو محزناً أو مخوفاً ، اشتغلت بمحاربته
وققاومته ومدافعته عن طلب الغذاء ، فهي في حال حربها
في شغل عن طلب الطعام والشراب . فإن ظفرت في هذا الحرب ،
انتعشت قواها ، وأخلفت عليها نظير ما فاتها من قوة الطعام
والشراب وإن كانت مغلوبة مقهورة ، انحطت قواها بحسب
ما حصل لها من ذلك ، وإن كانت الحرب بينها وبين هذا العدو
سجالاً ، فالقوة تظهر تارة وتختفي أخرى ، وبالجملة فالحرب
بينهما على مثال الحرب الخارج بين العدوين المتقاتلين ،
والنصر للغالب ، والمغلوب إما قتيل ، وإما جريح ، وإما أسير .


فالمريض : له مدد من الله تعالى يغذيه به زائداً على ما ذكره
الأطباء من تغذيته بالدم ، وهذا المدد بحسب ضعفه وانكساره
وانطراحه بين يدي ربه عز وجل ، فيحصل له من ذلك ما يوجب
له قرباً من ربه ، فإن العبد أقرب ما يكون من ربه إذا انكسر
قلبه ، ورحمة ربه عندئذ قريبة منه ، فإن كان ولياً له ، حصل
له من الأغذية القلبية ما تقوى به قوى طبيعته ، وتنتعش
به قواه أعظم من قوتها ، وانتعاشها بالأغذية البدنية ، وكلما
قوي إيمانه وحبه لربه ،
وأنسه به ، وفرحه به ، وقوي يقينه بربه ،
واشتد شوقه إليه
ورضاه به وعنه ، وجد في نفسه من هذه القوة ما لا يعبر
عنه ، ولا يدركه وصف طبيب ، ولا يناله علمه .




ومن غلظ طبعه ، وكثفت نفسه عن فهم هذا والتصديق به ،
فلينظر حال كثير من عشاق الصور الذين قد امتلأت قلوبهم
بحب ما يعشقونه من صورة ، أو جاه ، أو مال ، أو علم ،
وقد شاهد الناس من هذا عجائب في أنفسهم وفي غيرهم .


وقد ثبت في الصحيح : عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه
كان يواصل في الصيام الأيام ذوات العدد ، وينهى أصحابه
عن الوصال ويقول : " لست كهيئتكم إني أظل
يطعمني ربي ويسقيني " .


ومعلوم أن هذا الطعام والشراب ليس هو الطعام الذي يأكله
الإنسان بفمه ، وإلا لم يكن مواصلاً ، ولم يتحقق الفرق ،
بل لم يكن صائماً ، فإنه قال : " أظل يطعمني ربي ويسقيني " .


وأيضاً فإنه فرق بينه وبينهم في نفس الوصال ، وأنه يقدر
منه على ما لا يقدرون عليه ، فلو كان يأكل ويشرب بفمه ،
لم يقل لست كهيئتكم ، وإنما فهم هذا من الحديث من قل
نصيبه من غذاء الأرواح والقلوب ، وتأثيره في القوة وإنعاشها ،
واغتذائها به فوق تأثير الغذاء الجسماني ، والله الموفق .




ويجوز نفع التمر المذكور في بعض السموم ،
فيكون الحديث من العام المخصوص ، ويجوز
نفعه لخاصية تلك البلد ، وتلك التربة الخاصة
من كل سم ، ولكن ها هنا أمر لا بد من بيانه ،
وهو أن من شرط انتفاع العليل بالدواء قبوله ،
واعتقاد النفع به ، فتقبله الطبيعة ، فتستعين به
على دفع العلة ، حتى إن كثيراً من المعالجات ينفع
بالإعتقاد ، وحسن القبول ، وكمال التلقي ، وقد شاهد
الناس من ذلك عجائب ، وهذا لأن الطبيعة يشتد قبولها له ،
وتفرح النفس به ، فتنتعش القوة ، ويقوى سلطان
الطبيعة ، وينبعث الحار الغريزي ، فيساعد على دفع
المؤذي ، وبالعكس يكون كثير من الأدوية نافعاً لتلك
العلة ، فيقطع عمله سوء اعتقاد العليل فيه ، وعدم
أخذ الطبيعة له بالقبول ، فلا يجدي عليها شيئاً .
واعتبر هذا بأعظم الأدوية والأشفية ، وأنفعها للقلوب
والأبدان ، والمعاش والمعاد ، والدنيا والآخرة ، وهو
القرآن الذي هو شفاء من كل داء ، كيف لا ينفع القلوب
التي لا تعتقد فيه الشفاء والنفع ، بل لا يزيدها إلا
مرضاً إلى مرضها ، وليس لشفاء القلوب دواء قط أنفع
من القرآن ، فإنه شفاؤها التام الكامل الذي لا يغادر
فيها سقماً إلا أبرأه ، ويحفظ عليها صحتها المطلقة ،
ويحميها الحمية التامة من كل مؤذ ومضر ، ومع هذا
فإعراض أكثر القلوب عنه ، وعدم اعتقادها الجازم الذي
لا ريب فيه أنه كذلك ، وعدم استعماله ، والعدول عنه
إلى الأدوية التي ركبها بنو جنسها حال بينها وبين الشفاء به ،
وغلبت العوائد ، واشتد الإعراض ، وتمكنت العلل والأدواء
المزمنة من القلوب ، وتربى المرضى والاطباء على
علاج بني جنسهم وما وضعه لهم شيوخهم ، ومن يعظمونه
ويحسنون به ظنونهم ، فعظم المصاب ، واستحكم الداء ،
وتركبت أمراض وعلل أعيا عليهم علاجها ، وكلما عالجوها
بتلك العلاجات الحادثة تفاقم أمرها ، وقويت ،
ولسان الحال ينادي عليهم :

ومـــن العجــائب والعجــائب جمة قـرب الشفاء وما إليه وصول


كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول

رد مع اقتباس