عرض مشاركة واحدة
قديم 09-01-2010, 02:26 AM   رقم المشاركة : 5
ابو فارس
 
الصورة الرمزية ابو فارس





ابو فارس غير متواجد حالياً

ابو فارس على طريق التميز


افتراضي

العامل النفسي ودوره في شعر الحرب عند المتنبي
ملخّص الدراسة
نهضت هذه الدراسة بمقدمة وثلاثةِ محاورِ رئيسة هي:
1-العامل النفسي وتكبيرُ صورةِ سيفِ الدولة بالدعاية له وترصدُّه سماتهِ.
2-العامل النفسي ودورُه في قتالِ القبائلِ العربيةِ المتمرَدة على سيف الدولة.
3-العامل النفسي ودوره في رُوميات المتنبي.
أما المقدمة فالمحت إلى أنّ العاملَ النفسيَّ كانت له ادوار تندرجُ في منظومةِ الحربِ النفسية على ما يَعُرفها أهلُ الاختصاص في مجال الحرب.
وأمّا المحور الأول: فابرزَ من ادواره تكبيرهَ صورةَ سيفِ الدولةِ بسيفه باعتباره غازيا للروم طوال حياته، وتوقّفَ عند اسمه ولقبهِ وحربهِ الدينيّة لإعزازِ الإسلامِ، واستوقفتْهُ بعضُ سماتهِ الحربيةِ كَسُرعةِ الحشدِ وجاهزيتهِ للقتال، وحبَّهِ للتضّحيةِ، وافتدائهِ نفسَه أمامَ جيشه، وتوقّفَ عند سماتٍ حربيّة لِجُنْدِهِ، وكُلُّ ذلك مما يَرْفَعُ من معنويات ِالجندِ وقائِدهم.
وأمّا المحورُ الثاني: فحاول َأن يُضْعِفَ من عَزائمِ القبائلِ الثائرةِ، وتخذيلها؛ فَعَدّ خُروجَهم عليه إسخاطاً لله ،لأَّن سيفَ الدولةِ يخوضُ حرباً دينّية معَ الرومِ، فَضَلاْ عنْ أنَّ وسائلَ قتالهم، كالنياق، لا تصلحُ للحَرّبِ، وقد انتصرَ سيفُ الدولةِ على قبائل منها، فَسِجُّلهَ الحربيُّ شاهد؛ يثّبطُ هِمَمَ القبائلِ، وَيَرْفَعُ من معنوياتِ سيفِ الدولةِ وجندِه.



ـــــــــــــــــ
* نشر هذا البحث في مجلة المجمع العلمي- بغداد، ج4، مجلد4، 1421هـ- 200م




أمّا المحورُ الثالث: فتوقَّفَ عند تحديات ِالرُّومِ للمسلمين؛ فحربُهم دينية، فابتعثَ المشاعرَ الدينيةَ اسلوباً للجهاد ،وتوقَّف عند مشاعَرَ مروَّعة ،أْْوقَعها سيفُ الدولةِ بِهِم، فَوَزَّعَ الرُّعْبَ على الرومِ في يقظتهم ومناماتِهم؛ فأصابَهم ما يُمْكِنُ أن يُسمّى بـ "عُصاب الحربِ" مقاتلين وعذارى.
وأبرزَ ثلاثةَ مشاهدَ نفسيّة أليمة، لوفد الروم المفاوض، لِيَثُبَّطَ من معنوياتهم قَبْلَ مفاوضاتِ الهدنة المنتظرة، وهذا مما يعُدَ َّمن أدوار الحرب النفسية في أيامنا هذه.

























1-مقدمة:
لاجَرَمَ أنَّ للعاملِ النفسيِ دوراً وظّفهُ المتنبيُّ في رومياتِ سيفِ الدولة، وَقَمْعِهِ القبائلَ العربيةَ التي ثارتْْ عليهِ، فشكّل به محوراً بارزا من الحربِ النفسيةِ التي يُعَرِّفُها أهل ُالاختصاصِ بأنّها "مجموعةُ أعمال، تستهدفُ التأثيرَ على أفراد العدوّ، بما فيهم القادةُ والافرادُ غيرُ السياسيين، وتخلُقُ تصورّاً ما لدى العدو، أو تنفي تصوراتٍ عندهم عن طريق الدعاية، أو عملياتٍ عسكريةٍ استعراضية،والتنسيق بين العمل العسكري والدبلوماسي، لخلق تصوراتٍ معينةٍ، بغيةَ إحداثِ الفوضى والبلبلةِ عند العدو"(1).
لقد حدَّدَ المتنبي ببيتين ثلاثةَ أدوار ٍللعاملِ النفسي، في حربِ سيفِ الدولةِ؛ ضَمَّنَ في البيتين مجموعةَ أعمال، هَدفُها أوّلا تكبيرُ صورةِ سيفِ الدولةِ باعتباره غازيا الروم طول حياته، وثانباً: حَدَّدَ مَهَمَّتهُ لقتال ِالرُّوم، فتساءل عن موعِد عودته إلى البلاد من جبهته الخارجية في الروم، كما حدّد ثالثا روماً خَلْفَ ظَهْرِهِ يُمَثّلونَ عَرَبا ثائرين عليه على الجبهة الداخلية فيقول(2):
أَنْتِ طُوْلَ الحيـاةِ للـرُّومِ غازٍ فمتى الوعدُ أنْ يكونَ القفول؟
وَسوِى الرُّومِ خَلْفَ ظَهْرِكَ رُوْمٌ فعلـى أُيِّ جانبيـكَ تَمِيـلُ؟

وعليه فانقسمت الدراسة ثلاثةَ محاورَ، توزّعتْها أدوارُ العامل ِالنفسي على النحو الآتي:-
1-العامل النفسيُّ وتكبيرُ صورةِ سيفِ الدولة وترصدُّه لسماتٍ مميزَّة فيه.
2-العامل النفسيُ ودورهُ في تخذيلِ القبائلِ العربية وتسفِيهه آراءَ قادتِها، ووسائلَ قتالِها .
3-العاملُ النفسيُّ ودورُه في تأجيجِ مشاعر المسلمينِ، لحربٍ دينيّة، بين المسلمين والروّم.
أولاً-العامل النفسيُّ وتكبيرُ صورتهِ بالدّعاية وترصدُ سماتِه:
لقد وظَّف المتنبي العامل النفسي بأدوار عِدَّةٍ منها، تميُّزهُ عن غيره بسمات قياديّة خاصةً وعليه، فَأَعدَّتْهُ الخلافةُ العباسيةُ لمواجهة الأعداء(3).
لأمـْرٍ أعَدَّتْهُ الخِلافـةُ للعـِدا وَسَمَّتْهُ دُوْنَ العالمِ الصَّارِمَ العَضْبا

ومن العواملِ النفسيةِ تَوقُّفُهُ عند اسم سيف الدولة "علي" و"لقبه"، فَعَدَّ تلقيبَ الخليفةِ له "سيفَ الدولة" على أهميته- ظُلْما له، بخِلاف اسمه الحقيقي "علي" الذي يستأهِلُه بِحَقّ؛ ذلك لأِنَّ للسيفِ حَدّا يَنْقَطِعُ بالضَّرْبِ حينا، في حينَ أَنَّ كَرَمَهُ لا ينبو، أمّا اسمه "علي" فاسم "على مُسمّى، وهو إنصاف لِحَقَه، متّبعا أسلوبَ المناطقِة في المقارنِة والتمنطق(4).
وإنّ الذي سمَّىً عَلِياً لَمُنْصِفٌ وإنّ الذي سمّـاهُ سَيْفـاً لَظَـالِمُـهْ
وَمَا كُلُّ سَيفٍ يَقْطَعُ الهامَ حَدُّهُ وَتَقْطـَعُ لـَزْبـاتِ الزَّمانِ مَكارِمُهْ

ومن العواملِ النفسيّة تكبيرُ صورتِه، وهو بسيفهِ المسلول؛ ذلكَ أَنَّ عَاتِقَهُ عليه، أما قائمةُ فهو بـ "يَدِ" جَبّارِ السّمواتِ على ما لـ "جَبّار" من صورةٍ صوتيّه سمعية، تَئٍطُّ منها صِيْغَةُ مبالغةٍ، مُحَمّلَةٌ على كَفَّ قُدرةٍ إلهية لا تُقهر(5).
على عاتِقِ المَلْكِ الأغرَّ نِجادُهُ وفـي يـدِ جَبَّارِ السَمواتِ قائِمُـهْ

ومن العواملِ النفسَيةِ أنَّ حَرْبَهُ على الرومِ دينيةٌ لإعزازِ الإسلامِ دينِهِ، وليس بغروى؛ ان تكونَ حربُه كذلك؛ ذلك لإنَّ اناشيدَ الرُّومِ على ما يذكُرهُ شلمبرجة الفرنسي كانت "النصرُ للِه الذي هَدَمَ البِلادَ العربيةَ، والنصرُ للهِ الذي شَتَّتَ شَمْلِ من يُنْكِرُ التثليثَ المقدَّسَ، والنصرُ لله الذي جَلَّل بالخيبةِ هذا الاميرَ القاسي (سيف الدولة) عَدُوَّ المسيح، النَّصْرُ للهِ، النّصرُ لله"(6).
ويؤكّدُ الشاعرُ تمَّيزَ حَرْبِ سيفِ الدولةِ في رُومياته، على رغم من انحيازِ عَدَدٍ من المسلمين، مع الروم ضِدَّهُ، إمّا عَجْزا ًأوْ رَهَباً، لِيَظَلَّ سَيْفُ الدّولةِ في جانبِ يُقاتِلُ الِله اعداءه المشركين(7):
أرى المسلمينَ مع المُشْرِكينَ إمَّـا لَعجْـزٍ وإمَّـا رَهَـبْ
وانتَ مَعَ الِله فـي جَانـبٍ قليـلُ الـرُّقادِ، كثيرُ التَّعَبْ

ومن العوامل النفسيةِ التي استوقفتْهُ بعضُ سماتِهِ الحربيّة منِْهاِ؛ سُرْعَةُ حَشْدِهِ، وجاهزيتهِ للقِتال وَرَدَُّ الخُصومِ(8).
وَظنَّهِمِ أنّكَ المِصباحُ في حَلَبٍ إذا قَصَدْتَ سِواها عادَها الظُّلَمُ
فَلَمْ تتِمَّ سَروجُ فَتْحَ ناظرِهـا إلاّ وَجَيْشُكَ فـي جَفنيه مُزْدَحَمُ

ومن العواملِ النفسيةِ التي استوقفتْهُ حُبّةُ التضحيةَ، وافتداؤه نَفْسَه أمامَ جيشهِ، وهي سمةٌ تُسْتَحْسَنُ في تميّز القادة(9):
كُلٌّ يُريـدُ رِجالَـهُ لِحَياتِـهِ يا مـَنْ يُرِيْدُ حياتَهُ لِرِجَالِـهِ

ولمْ يكتفِ بتكبيرِ صورةِ سيفِ الدولة، وتسليطه ِالمركَّزِ، على مزاياه وَْحدَه، بل وظَّفَ العاملَ النفسيَّ، بأدوارٍ عِدَّة على رجالِ سيفِ الدولة، فهم خُبَراءُ حرب، وجراحهم شاهدة(10):
وَكُلُّ فتى لِلْحَرْبِ فَوْقَ جَبِيْنِهِ مِنَ الضّْرْبِ سَطْرٌ بالأسنّة مُعْجَمُ

إنّهُمْ خُبراءُ يجيدونَ تمويهَ أنفسهم، وخيولِهِمْ، فتبدو مُلَثَّمةً بتجافيفها(11):
لها في الوغي ِزيُّ الفوارسِ فَوْقَها فَكـُلُّ حِصـانٍ دارعٌ متلثـِّمُ
انهم فرسان متلثّمون، لئلا تسقط عمائمهم في سوح الوغي(12):
سَأَطْلُبُ حَقّـي بالقَنـا ومشايِـخٍ كأنّهمْ من طُوْلِ ما التَثَموا مُرْدُ
فرسانٌ محترفَون في ضربِ الهاماتِ، خفافٌ على خيولهم(13):
ضَروبٌ لهامِ الضاربي الهام في الوغى خفيف إذا ما اثقل الفَرَسَ اللِّبْدُ

وهم رماةٌ أجيادٌ من على صهواتِ الجياد، يُسدِّدون رماحَهم على أعدائِهم من بين آذان الخيل(14):
وَجُرْداً مَدَدْنـا بَيْنَ آذانِها القَنـا فَبِتْـنَ خفِافـاً يَتَّبعْنَ العواليا

وجُنُودُهُ هؤلاءِ يُمَشِّطُون الأرضَ بسيوفِهم، بحثاً عن حقوقِهم في سُوح العمليات؛ سواءً ارتفعَ آكامُها أم انخفضت غِيطانها(15):
تَرمِي على شَفَراتِ الباتراتِ بِهِمْ مكامنُ الأرضِ والغيطانُ والأَكَمُ
كما يوُظِّفُ الشاعرُ مشاهداتِه الحربيةَ عواملَ نفسّية؛ تشهدُ لسيفِ الدولة قدرَتَهُ على تعبئته صفوف القتال(16):
عَرَفْتكُ والصُّفـوفُ مُعبئّـآتٌ وأَنْـتَ بِغَيْـرِ سَيْفِـكِ لا تَعيِـجُ

كما يشهدُ له بشجاعةٍ متفرَّدةٍ في ساحِ الوغى، عندما ثَبَتَ في الهيجاء وحده، بينما انهزمَ الأبطالُ من حولِه(17):
وما حَمْدتُكَ في هَـْوِلٍ ثَبَتَّ لـه حتـىّ بَلَوْتـُكَ والأبطالُ تَمْتَصِعُ
إنّ العواملَ النفسيةَ أدّتْ دَوْرَها من حيثُ خَلْقُها صورةً مكبّرةً لسيفِ الدولة، ومميِّزةً له، يعزّزها بتجربتِه ومشاهدته مواقفَ التميزّ عِنْده، ومُرَكَزََّةً على سمات جُنِْده، وهو يُنِّسقُ بين صفاتِهم الجسدّية كالخِفَةِ والرّشاقة، والفعلية، كدقِة الرمي، وتمشيطِ الأرض، بِحرفة عسكرية متميّزة أيضاً.
ثانياً: العامل النفسي ودوره في قتال القبائل العربية المتمردة
لقد وظّف المتنبيّ العاملَ النفسيَ، بأدوارٍ متعدّدةٍ في قتالِ سيفِ الدولةِ للقبائلِ العربيةِ الثائرةِ عليه، بشهاداتِ المؤرخين؛ منهم ابنُ الأثيرِ الذي يُدْرِجُ عِصياناتِ أهلِ حَرَانَ على هبِةِ اللهِ بن ناصر الدولة بن حمدان؛ لأِنَّهُ كان مُتَقلِّدا لها، ولغيرها من ديار مضر، مِنْ قِبَلِ عَمّهِ سيفِ الدولة سنة (354هـ).
وعصيانَ نجا خادمِ سيفِ الدولة سنة (353هـ) ومخالفةَ أهلِ أنطاكيةَ على سيفِ الدولة سنة (354هـ)، وغيرُها كثيرة(18).
إنّ مِثْلَ هذه الثوراتِ الداخليةِ من قبائلَ عربية، أَرْهَقَتْ سيفَ الدولةِ بلا شكّ، لاسِيَّما الرومُ، لا ينفكُّون عَنْ شَنّ غاراتِهم على حدودِ الدولةِ العباسيةِ، ممّا جَعَلَ الشاعرَ يَجْأَر بِشِعرِه، ويتشكّى من ثوراتهِم، وَيَعِدُّهُمْ رُوما فعلا، وإن كانوا مسلمين اسما(19):
وسِوى الرُّومِ خَلْفَ ظَهْرِك رُوُمٌ فعلـى أيَّ جانبَيِْـكَ تَمِيْـلُ؟!

وعليه فكان عامِلُهُ النفسيُّ يقومُ بأدوارٍ منها:
إضعافُ عزائمِ القبائلِ الثائرة لأنها ضعيفة أمام سيفِ الدولة، وان بَدَتْ في نظرنا قوية، إذ من واجبِ العاملِ النفسيِ الردُّ على دعاوي الخصِم، لاضعافِ حُجّتِهِ، وزعزعِة قناعاتِه بالحرب، التي يَتَوجَّهُ إليها، فها هو يَنْقُضُ مزاعمَ القبائلِ الثائرة، ويعد خروجها عليه إسخاطا لله -عزَّ وجلَّ-، لأنّ حَرْبَ سيفِ الدولةِ حربٌ دينّية على أعداءِ الاسلامِ، فلم هذه الفتن الداخلية اذن(20)؟.
أرى المسلمين مع المشركيـن (م) إمّـا لَعَـجْـزٍ وإمّـا رَهَـبْ
وأَنْتَ مَـعَ اللهِ فـي جانِـبٍ قليـلُ الـرُّقـادِ، كثيرُ التَّعَبْ

إنّ خروجَ القبائل على سيفِ الدولة، كقبيلةِ عقيل، يقودُها الثائرُ إلى الموت؛ فيشمت بها المخلوق، ويغضبُ بخروجها الخالق -عِزَّ وجلَّ-، فبرأي من انقادت إليه ؟ أللموت والهلاك(21)؟!.
برأي من انقادت عُقَيْلٌ إلى الرَّدى وإشْماتِ مخلوقٍ وإسْخاطِ خالقٍ؟

كما يُوظِّفُ العاملَ النفسيّ بدَوْرٍ؛ يزعزع فيه ثقةَ القبائِل من جهة، وبوسائلَ حربه "الناقة" التي لا تصلحُ للحربِ من جهة أخرىِ بأُسلوب ساخر(22).
وجَيْـشَ إمـامٍ علـى نَـاقـةٍ صحيـحِ الإمامـةِ فـي الباطلِ

ويُزْعْزِعُ ثقِتَهم بالنَّصر؛ مستندا إلى سِجلّ سيفِ الدولة الحربي من قبل، الذي انتصر على قبائلَ أقوى من هذه الثائرة(23):
وَسَوْقَ عليّ مـن مَعَدِّ وغيرِها قبـائلَ لا تُعطي القُفِـَيََ لِسائقِ

ثُم يُوَسِّعُ عاملَه النفسيَّ، فيدرجُ خطورةَ الثوراتِ الداخليةِ هذه، على أمن الدولة الإسلامية، لأِنّها تُشْغِلُ سيفَ الدولة عن حربهٍ مع الروم، لردع خطرهم ودرئه، وهو توجّهٌ وطنّي فيما يسمى اليوم، يُغَلِّفُهُ بِحَرب نفسيّةٍ، يثِّبط بها معنوياتِ المقاتلينَ الثائرينَ على سيفِ الدولةِ أولا، ويرفعُ ثانيا من معنوياتِ سيف الدولة وجيشهِ، من خلال عَرْضِهِ مشاهدَ من سِجله الحربيِّ المشرّف، فتنهض صورةٌ خفيَةٌ من بينِ السطور؛ تُشْعِرُ المتلقي أنّ ثورةَ القبائلِ فاشلةٌ، يكادُ يُحْكَمُ عليها قبل بدئها؛ وهي مع ذلك تُشْغِلُ سيفَ الدولةِ عن جهاده الروم(24).
ولأ شغلـوا صُـمَّ القَنا بِقُلوبِهِـمْ عن الرَّكْزِ لَكِنْ عن قُلوبِ الدَّماسقِ

ولماذا لا تَحْذَرُ القبائلُ سيفَ الدولةِ صاحبَ القوة التحويلية، التي يمسخ العدوّ القوي ويبدّلُ قُوَّتّه ضعفا(25)؟.
ألمْ يحذروا مَسْخَ الذي يَمْسَخُ العدا ويجعلُ أيدي الأُسْدِ أيدي الخرانق؟

ولا يكتفي الشاعرُ بالقولِ والتلويحِ بهزيمةِ القبائل، بل يُوظَّفُ عامِلَهُ النفسي؛ شاهدا عليه، نُطِلُّ به معه على مَشهدٍ قتالي، نرى فيه قبائلَ ثائرةً؛ تتساقطُ رؤوسهم، فتتعثّر بها اَرْجُلُهم، في موقف مروّع، نرى في المشهد شاها تتثاغى، وإبلا تتراغى، بعد أن افتقدت اصحابها، تتبقى في جنبات المشهد الدموي هذا صورة ثكلى معواء(26):
مَضَوا متسابقي الأعضاءِ فيه لإِرْءُوسهـِمْ بِأرْجُلِهم عثْار
يُبَكَّي خَلْفَهُـْم دَثْـرٌ بُكـاه رُغـاءٌ أو ثُؤاْجٌ أو يُعـارُ

ثم يُذكَّرُهم بمشهدٍ حزينٍ مؤسٍ؛ ذاك هو مصيرُ السّبايا العربياتِ منهم، وهو الشَّرَفُ التليدُ الذي يصونُه العربُّي مُذكان وحتى الآن؛ يذكّرُهم بِهِنّ، وقد أُردفْنَ سبايا راكباتٍ، بعد أن دِْيسَتْ تحتَ سنابكِ خيل سيف الدولة أطفـالٌ صغـار(27):
وَأُرْهقت العَذارى مُرْدفَاتٍ وَأُوطِئَتِ الأُصَيْبِيَةُ الصَّغارُ

إنَّ الشاعرَ يَتَفنَّنُ في توظيفِ هذا العاملِ النفسي، فيعلمُ أَنَّهُ يثير حفيظة العربيَّ ليِثأرَ، أو على الأقلِ ليَنْقُمَ على من كان سببا فيه، ولكنّه لدرايته بالنفس المتلقية، وَحُسْنِ خبرته بها، يَعْرِضُ مَشْهدا نبيلًا لسيف الدولة، فهو بَدَلاً من قتله الاسرى، وهتكهِ أعراضَ السبايا، يَفُكُّ أسرَهم ويعفو عنهم اولا ويعيدُ ثانيا السبايا العربيّات مُعَزّزاتٍ دون المساس بِهِنّ، ولا ريبَ في أنَّ توظيفَهُ هذا العاملَ النفسي، يستحضرُ موقفا إنسانيا نبيلا لممدوحه، ويستلُّ سخيمةَ نفوسٍ ثائرة، لعلّهِا تغيّرمن رأيها في سيفِ الدولة، وهي بالتالي ترفعُ من شأنِ ممدوحِهِ، ومَّا يدعوها إلى تَدَبُّرِ أمْرها مَلِياًّ قَبْلَ الخروجِ عليه(28).
فَعُدْنَ كما أُخِذْنَ مُكَرَّمـاتٍ عَليِهـنَّ القلائـدُ والمَـلابُ

أَمّا فَكُّ أسراهم فكان للنّسبِ المشتركِ، وحقّ الجِوار، كأنها دعوة إلى توحيد الكلمة ورصَّ الصفوف العربية(29):
لَهُمْ حَقٌّ بِشِرْكِكِ في نِـزارٍ وأدنى الشَّرْكِ في أَصْلٍ جوِارُ

ويوظَّفُ للعاملِ النفسيّ دوراً يَشْحَذُ به هِمَمَ سيفِ الدولةِ، لئلا ينخذلَ عن هدفهِ السامي في قراعِ الرُّومِ، على كَثرةِ ما يرى من تعاونِ المسلمين مع المشركين الروم، فيبُرزه في جَنب الله وحيدا، وغيرَه مشركين يدينون بابـن وأب(30).
كَأَنَّـك وَحْــدَكَ وَحَّـدْتَهُ ودانَ البـرِيـَّةُ بِآبـنٍ وَأَبْ

ثالثا: العامل النفسي ودوره في روميات المتنبي
لقد وظَّفَ العاملَ النفسيَ، بأدوارٍ متعددّة في رومياتِ سيفِ الدولةِ الحمداني منها تَحدّياتُ النصارى للمسلمين(31):
أَبا الغَمَرِاتِ تُوعِدُنـا النُّصـارى ونحنُ نُجـومُها وهي البروجُ
ومنها أنَّهم يحتشدون بِعناصرَ قتالية، من جِنسيات شتى، شأنُهم في يوم الحدث الحمراء، إذ حَشدوا لها روما وروسا وبلغارا في حرب منظّمة لهدم قلعة الحدث(32). فيقول(33):
تَجَمّـَع فيهـا كُـلّ لِسْـنٍ وَأُمّـةٍ فمـا يُفْهِـمُ الحُدَّاثَ إلا التَراجِمُ
وَكْيفَ تُرجّي الروُم والرُّوُس هَدْمَهُ وذا الطعـنُ آساسٌ لها ودَعائِمُ؟!

ومنها إصرارُ بعضِ البطارقةِ على سحقِ سيفِ الدولة، بعد أن اقسموا بمفرق الملك الرومي، ومع ذلك خذله الله عن مراده، فصغّره المتنبي بأيمانه التي خانه تنفيذُها(34):
آلى الفتى ابنُ شُمُشقـيق فَأَحْنَثَـهُ فتـى من الضَّرْبِ تُنْسى عِنْدَهُ الكَلِمُ
أينَ البِطِارِيقُ والحَلْفُ الذي حَلَفوا بِمَفْرَقِ المَلْكِ والزَّعْمُ الذي زعموا؟!

لقد بَرَزَ دورُ العامل النفسي - كما ترى- في تأجيجِ مشاعرِ المسلمينَ على أنَّ الحربَ بين المسلمين والروم حربٌ دينية(35):
وانـت مع اللهِ فـي جانــبٍ قليـلُ الرُّقـادِ، كثيـرُ التَّعَـبْ

فابتعاثهُ الحربَ الدينيةَ تُؤجَّجُ المشاعرَ الاسلامية للجهاد وهو دور نفسي هام(36):
خَضَعَتْ لِمُنْصُلِكَ المَناصِلُ عَنْوَةً وَأَذلَّ ديِنُـكَ سـائـرَ الأديـانِ

كما يوزَّعُ أدوارَ العاملِ النفسي، على حالاتِ جهادِ سيفِ الدولة منتصرا ومنهزما معا.
أَمّا منتصرا، فيبعثُ الرُّعْبَ في قلوبِ الروم قبل التقائهم حينا(37).
بَعثوا الرُّعْبَ في قُلوبِ الاعا(م) ديِّ، فكانَ القتالُ قَبْلَ التلاقي

كما يوزَّعُ حينا آخر الرُّعْبَ على قلوبِ الروم، قبل عيونِهم، فتبدو الصورةُ البصريَّةُ في عيون الروم مُكبَّرَةَ مَرعوبةَ الرؤية، فترى لِفَزَعِها طُولَ أذرعِ القنا على مسافتِها القصيرة أميالاً تنوشهم أنّى كانوا، فبدا الرُّعْبُ ذاك يبيدُ جموعَهم يَمنةً ويَسرةً(38):
وإذا حاولت طِعانـَكَ خَيْـلٌ أَبْصَـرَتْ أَذْرُعَ القنا أميالا
بَسَطَ الرُّعْبَ في اليمينِ يَمينا فتولّى وفي الشَِّمـالِ شِمالا

ولعلَّ هذا توزيعٌ لأِِدوارِ العامل النفسي في ابتعاثِ هيبةِ سيفِ الدولة في نفوسِ الروم؛ لأِنّ شلمبرجة الفرنسي أكّد أنَّ الروم أسموه الكافر الحمداني، وهو "المحارب الأعظمُ السامي الذي اعلن الحربَ المقدَّسة على النصرانيةِ"(39).
لقد وزّع الرعبَ النفسيَّ على الرومِ فأقضَّ مضاجِعَهم في يقظاتهم ومناماتهم، وهذا ما يسمى اليوم بـ" عُصاب الحرب" (40)فاجتاحهم الرُّعب النفسي ليلا ونهارا(41).
وَكَيْفَ يَبِيْتُ مُضْطَجِعاً جبـانٌ فَرَشْتَ لِجَنْـِبِه شَوْكَ القَتادِ؟!
يَرى في النومِ رُمْحَكَ في كُلاهُ ويخشى أن يراهُ وفي السُّهادِ

وعُصابُ الحربِ هذا يتفشّى من الجندي المقاتل إلى عذارى الروم؛ فما تكاد العذراءُ تَحْتَلِم حتى تحلمَ بالسبّي العربي، وإذا هي محمولة على جِمال العـرب سبيَّـةً(42).
فَكُلّمـا حَلَمـَتْ عَـذراءُ عِنْـدَهُمُ فإنّمـا حَلَمَتْ بالسَّبيَّ والجَمَلَ

وإذا كان عُصابُ الحربِ أصابَ العذارى ممن لم يُسْبين بعد، فإنْ مشاهدَ من سبايا الرومِ دليل؛ ذلك أن بعضَ السبايا الروميات احتمين بِجَمالِهِنَّ فَلَمْ تُضْرَبْ أعناقهن لأجله حينا(43).
فَلَـْم يَبْقَ إلا مَنْ حَمـاها مـن الظُّبا لمى شفتيها والثُّدِيُّ النَّواهِدُ

وَمِنْهُنّ كواسدُ عند العرب،مع أنَّهُنَّ عزيزات على الروم؛ ذلك أنَّ البطارقة يبكون عليهن ليلا في تحسُّرٍ حينا آخر:(44).
تُبَكّي عَلِيِهنَّ البطاريقُ فـي الدُّجـى وَهُـنَّ لـدينا مُقْلَياتٌ كَواسِدُ

وعُصابُ الحربِ يمتدُّ إلى الأسرى فيبولُ بعضُهم على فخذيه بعد أن تبلَّلَ ثوبُهْ(45).
فَغـدا أسيـراً قـد بَلَلْـتَ ثِيـابـَهُ بـِدَمٍ وبـَلَّ بِبـَوْلِهِ الأفخـاذا

وليس بضروري أن يمتدَّ عُصابُ الحرب إلى الاسرى ، فبعضهم من تُضْرُبُ رَأْسُهُ على عجل(46).
أَعْجَلْتَ أَلْسُنَهـُمْ بِضـَرْبِ رِقابِهِـمْ عـن قـَوْلِهِمْ لا فارسٌ إلا ذا
ويوزَّعُ الحرب النفسية أدوارا منها؛ً على قتلى الحرب، في سوح القتال، فتسرَّحُ خيالَك مع الشاعر إلى قتلى ملقاة أجسادُهم في صحارى، تأكلها السِّباعُ، فتثني على قاتليهم بصورة تشخيصية متشفيّة، لأِنَّ جُثثَهم وجبات دسمة لها(47).
تَرَكْتَ جَماجِمَهُـم فـي النّقـا ومـا يَتَحصَّلْـنَ للنّاخِـلِ
وأنبـتَّ مِنْهـم ربيـعَ السَّبـاع فأثنتْ بإحسانـِك الشَّامـلِ

والعاملُ النفسيُّ يشملُ قتلى المسلمينَ في حَربِ الروم، ممن خالفوا سيفَ الدولة، فَعَدَّ قَتْلَهُمْ عقوبةً لهم، وتصفيةً لأِدران الجيش الإسلامي(48).
قَلْ للدُّمُستْقِ إنَّ المسلميـنَ لَكُـم خانوا الاميـرَ فجازاهم بما صنعوا
وَجَدْتُموهُمْ نيامـا فـي دِمائِكُـمُ كأنّ قَتْـلاكُـمُ إيـاهـم فَجَعُــوا
لا تحسبوا مَنْ أسَرْتُمْ كان ذا رَمَقٍ فليـس يأكُـلُ إلا الميِّتَ الضَّبُـعُ
وإنما عـَرْضَ اللهُ الجنـودَ بِكُـمْ لـكي يكونوا بلا فَسـْلٍ إذا رَجَعوا

وقتلى الرومِ جُثَثٌ ملقاةٌ في الفلا هنا وهناك، ويحَّدقُ بها وفدُ الروم، المفاوضُ سيفِ الدولة، فتنكشَّفُ أمامَه صورٌ نفسية حركية تَقْشَعِرُّ لهولها الابدان، لما يرون من هَامٍ مُفلّق في ميدان الحرب(49).
وقد سارَ في مَسْراك مِنْهُ رسولُـه فمـا سـار إلاّ فـَوْقَ هامٍ مُفَلَّقِ

ويوزَّعُ المتنبي العاملَ النفسيَ على وفدِ الرومِ المفاوضِ للهدنة سنة 344هجرية(50).
فأبرزَ الشاعرُ رسولَ ملكِ الرومِ لابساً دِرْعَه، يخفقُ قلبُهُ هلعا، وهو يمشي بين صفّين متقابلين، من جند سيف الدولة، ممن اصطفوا لاستقباله، وكان سيفُ الدولةِ يقفُ على بِساط الملكِ الرومي، وعليه تاجُه، فَقَسَّمَ الوفدُ نَظْرَتَهُ بين سيف الدولة حينا وسيفهِ حينا آخر كما يرسمُهُ هذا المشهدُ(51).
أتاك يكادُ الرأسُ يَجْحَدُ عُنْقَـُه وَتَنَقدُّ تَحْتَ الذُّعْرِ مِنْـهُ المَفاصِلُ
يُقَوَّمُ تقويمُ السَّماطيـْنِ مَشْـَيهُ إليـكَ إذا مـا عَوَّجَتـْهُ الأفاكل
فَقاسَمَكَ العينينِ مِنْهُ وَلَحْظُـةُ سَمِيـُّكَ، والخِـلُّ الذي لا يُزايِلُ

وتبدو من النَّصَّ أنها المرحلةُ الثالثةُ للمقابلةِ، إذ مرَّ بِمَشهدينِ نفسيّين قبلها؛ أولُهما مُرورُ الوفدِ الرومي على ساحِ المعركة، ليَشْهَدَ بنفسهِ الهاماتِ المفلّقة، وثانيها يشهدُ الوفد لبوءَةً قَتَلَها رجِالُ سيفِ الدولة، لما لذلك من رمزٍ دالًّ على القوة والسطوة، حتى على ملوكِ الغاب، فتزدادُ هيبةُ سيف الدوله في نفوس وفد الروم (52):
وَأَقْبَلَتِ الرُّومُ تمشي اليـكَ (م) بَيْـنَ الليـوثِ وأشبـالِهـا
إذا رَأَتِ الأسْــدَ مَسبيـَّةً فكيـف تَفِـرُّ بأطفـالِهـا؟!

ويستمرُّ في عرضِ مَشْهدِه النفسي، فَيُبرِزُ حَرَسَ المراسم في كامل تسلّحه، تلمع في أشعةِ الشمس سيوفُه بين صَفَيّ مراسم، فيرتبكُ وَفْدُ الروم، لما يراه من رَهَبوت؛ مَقْدَما وعَرْضا عسكريا وتهيّباً عند مقابلةِ سيف الدولة(53).
وأَقَبْلَ يَمشي في البِساطِ فما درى إلى البَحْرِ يمشي أم إلى البدرِ يرتقي؟

إنّ تذكيرّه بهذا الموقف، كان ليرفعَ من معنويات سيفِ الدولة وجنودِه، فالحربُ كَرٌّ وفرٌّ، فلابدَّ أن يَنْفُخَ فيه روحَ الجِهاد، ليثأرَ من الرومِ. بعد أن بلَغَهُ خبرٌ عن حشد الروم أربعين ألفا، بعد ثلاث سنوات من هزيمتهِ، فتهيَّبهم جيشُه، فَطَلَب سيفُ الدولةِ من شاعرِه المتنبي، أن يذكيَ فيهم روحَ الجهاد فلبّى أوامره، فنفخ فيهم روح الحمية بصور شتى، وهذا دورُ العامل النفسي في الحرب. لقد تحشّد سيُف الدولةِ بُِعدّته الكاملِة وأعدّ للحرب عُدَّتها(54):
وَخَيْلٍ حَشوناها الآسنّةَ بعدمـا تَكَدَّسْـنَ مـن هَنـّا وَمِنْ هَنّا

ومنها أنَّ الحرب كرٌّ وفرٌّ، والروم يدركون ذلك تماما، والمسلمون هم أصحاب روح قتالية عالية(55).
وقد عَلِمَ الرُّومُ الشقيُّون أَننّـا إذا ما تَرَكْنا أرضَهم خَلْفَنا عُدْنا

ومنها "أننّا" بضمير الجمع المتكلم نرتدي للحربِ عُدَّتها، ونتهيأ لها سيوفا ورماحا، ويضفي على حَربِه النفسية اشتراكَه الشخصي، معهم في المعركة التي تهيأ لها(56).
وإنّا إذا ما الموتُ صَرَّح في الوغى لَبسْنِا إلى حاجاتِنا الضَّرْبَ والطَّعْنا

ومنها غوصُه في أعماقِ النفّسِ الانسانيةِ، لانها صاحبةُ القرارِ في تصورِ الخوفِ أو عَدَمِه؛ فهي تخافُ إذا ما تخيّلت الخوفَ، أو يُرْبَطُ جأشُها، فترى في الحرب أمنا(57).
وما الخَوْفُ إلاّ مـا تَخَوَّفَـه الفتى وَمَا الأمنُ إلاّ ما رآه الفتى أَمنْا

ثُمّ ينقلُ إلى المتلقين بعاملٍ نفسي مشهداً حربيا، كان من سِجلّهم السابق مع الروم، إذْ أحرزوا نصراً، وأهرقوا فيه دمَ الروم التي بَرَدَتْ مُنَذُ يومِ اللَّقان، وهاهم يتابعون القتال، يوظِّفُ التضادَ، وبفعل متعد (تتبع البارد السخن). من جهة، وفعلاً مضارعاً مستمراً متعدياً، يحمل معه حربا نفسية مصمّمةً على القتال مستنهضا هِمَم الجندية(58).
فَقَدْ بَرَدَتْ فوقَ اللُّقان دماؤهم ونحنُ أناسٌ تُتْبِعُ البارِدَ السُّخنا

وتستوقفه الجرحى عاملا نفسيا يوزعِّهُ على المسلمين والرومِ، يقارنُ بين حالاتِهم، أمّا الجريحُ المسلم فيزدان به وجههُ إشراقاً لأِنهُ ناله بشرفٍ في ساحِ المعركة، كجُرح محمد العلوي الذي تمنى الشاعر أن يمنى بمثله(59).
يا ليتَ بـي ضَرْبَةً أُتيحَ لها كمـا أتيحـتْ لَـهُ مُحَمَّدُهـا
أثَّرَ فيها وفي الحديدِ ومـا أثـََّر فـي وَجِهْـهِ مُهَنـَّدُهـا
فاغْتَبَطِـتْْ إذ رأتْ تَزَيُّنَها بـمِثْلِـه والجـراحُ تَحْسُدُهـا

والجراحُ تعادلُ خبراتِ الجند في سُوح الوغى فتزداد الثقة به(60).
وَكُلُّ فتى للحربِ فَوْقَ جَبِيِنِه من الضَّرْبِ سطر بالأسنََّةِ مُعْجَمُ

أمّا جراحُ الرومِ فعارٌ عليهم؛ لأِنّهم جُرحوا مدبرين، لا مقبلين، كالدمستق الذي ولّى على عقبيه تاركا وَلَدَهُ في شفار الموت(61):
نَجَوْتَ بإحدى مُهجتيك جَرِيْحَةً وخَلَّفْتَ إحدى مُهجتيك تَسِيلُ

ثمُ يقارِنُ- من منظور نفسي- بين جريحٍ مُسلم، يرجع للقتال، بخبرة حَرْب مُعتّزا بها، ودمستقَ روميٍ جريحٍ، يَعْتَزِلُ السّلاحَ ويترهبنُ، مُنْحَطِمَ المعنويِة يتزيّا بالمُسوح لباسا، ثم يَقْبُعُ في ديرٍ منكفِئا على نَفْسِه، يمشي به العكَازُ لا العكس، خائرَ القوى، راضيا بحالتهِ هذه، بعد أنْ كانَ يتعفَّفُ على أحسنِ الدروع الدلاص، والشُّقر الجياد(62):
فأصبحَ يجتابُ المُسُوْحَ مَخَافـةً وقد كان يَجْتابُ الدِّلاصَ المسرَّدا
ويمشي به العُكّازُ في الدَّيْرِ تائِبا وما كان يرضى مَشْيَ أشْقَرَ أجْرَدا
وما تابَ حتّى غَادَرَ الكَرُّ وَجْهَهّ جَريحاً وخلَّى جَفْنَهُ النَّقـعُ أَرْمـَدا

ونخلص إلى أنَّ العاملَ النفسّي، كان له ادوارٌ عدة عند المتنبي وزّعها على ثلاثةِ محاورَ هي: الدعايةُ لسيف الدولة وتكبيرُ صورته، وترصُّده لسمات مميّزة، انمازَ بها عن غيرِه حربيا ونفسيا، لرفع معنويتهِ في سرائِه وضرائه وترهيبِ خصومه.
والعاملُ النفسي كان له دوُره في قتالِ القبائلِ العربية، واضعافِ عزائمِهم عن القتال، والدعوةِ إلى ضَمّ الصفوفِ، ومحاولتهِ استلالَ السخيمةَ من النفوس.
والعاملُ النفسي ودورُه في رومياتِ المتنبي: منتصرا ومنهزما، ليرفع من معنوياتِهِ في الانتصار، للاستمرار في الجهاد، وتبريرِ انهزامه، فالحربُ كَرٌ وفرّ، لاسيما أنَّ سيفَ الدولة كان يطلبُ من شاعره احيانا أن ينفخَ في الجيش روحَ الجهاد، كُلّما شعرَ أنها فَتَرَتْ أو تراخت، في فترات عصيبةٍ خاصة، عندما يحتشدُ الروم من أجناس شتّى ضِدَّ سيفِ الدولة، الذي كان يقف في وجوهِهم وحيدا على قِلّةِ جنده، وتفرَّق بعضِها وثوراتِهم عليه، في فتنٍ داخلية، كانت تَعْصِفُ بدولته؛ كلما شعروا بِضَعْفٍ، حلَّ فيهم جسديا أو نفسياً، أو تهديدا طاغيا روميا أو لطمع في التسيّد والاستقلال.
ولعلّ هذه الادوارَ التي درسناها تَنْسَحِبُ كُلُّها أو مُعْظَمُها على ما يعرفه أهلُ الاختصاص بمصطلح الحرب النفسية في عصرنا الحاضر

المصادر المراجع
1- ابن الاثير: عزُّ الدين أبو الحسن علي بن المكارم محمد محمد عبد الكريم الشيباني: الكامل في التاريخ، مراجعة د.محمد يوسف الدقاق، بيروت: دار الكتب العلمية، ط2، 1990، ج7.
2- الحموي، ياقوت:معجم البلدان، بيروت: دار صادر، 1995، (7) سبعة أجزاء.
3- شرح ديوان أبي الطِّيب المتنبي، وضعه عبد الرحمن البرقوقي، بيروت: دار الكتاب العربي، (4) أربعة اجزاء بمجلدين.
4- العسلي، بسام: فَنُّ الحرب الإسلامي في العصر العباسي، ط1، بيروت: دار الفكر،1988.
5- فوللر، ج.ف.س: إدارةُ الحرب من عام 1789 حتى ايامنا هذه، تعريب وتعليق اكرم ديري، ط2، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1981.
6- كحّالة، عمر رضا: معجم قبائل العرب القديمة والحديثة، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1994، ط7، (5) خمسة أجزاء.
7- المحاسني، زكي: شعر الحرب في أدب العرب في العصرين الاموي والعباسي إلى عهد سيف الدولة الحمداني، ط2، القاهرة: دار المعارف. (د.ت).
8- مؤنس، حسين: أطلس تاريخ الاسلام، القاهرة، مؤسسة دار الزهراء، 1981.
9- هيثم الايوبي وزملاؤه: الموسوعة العسكرية، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، (3) ثلاثة اجزاء.
الدوريات
حسن الربابعة: بحث عنوانه " الشؤون الإدارة في الحرب عند المتنبي" نشر في مجلة جامعة جرش للبحوث والدراسات المجلد2، عدد1، كانون أول 1997، ص133-172.



رد مع اقتباس