عرض مشاركة واحدة
قديم 09-01-2010, 02:24 AM   رقم المشاركة : 3
ابو فارس
 
الصورة الرمزية ابو فارس





ابو فارس غير متواجد حالياً

ابو فارس على طريق التميز


افتراضي

حرب داخلية حرب الروم

(1)
أمّا الصيانةُ فبرزتْ في تنظيفِ الأسلحةِ، وإعدادِ الخيل، كَمَعّدا ت ٍلقتال، في شعر المتنبي، ذلك أن الشاعرَ نفسَهَ يُعُدُّ سَيْفه، ويمسحُ عنه آثار الدماء، صيانة(46) :
وَبـِتْنـا نُقَبَّـلُ أسيـافّينـا وَنَمْسَحُهـا مـن دمـاءِ العِدا
فلابدَّ من مَسحِ الدماءِ، عن السيوف، كي لا يجف عليها وهو صيانة لها(47):
يَبِسَ النَّجيعُ عليهِ وهو مُجَرَّدُ مـن غِمْـدِهِ وكأنَّما هو مُغْمَدُ
ومن الصيانةِ إماطةُ ما يَنْعَفِرُ من التَّرِاب على السّلاح(48)
وَمُنْعَفِرٍ لِنَصْلِ السَّيفِ فيـهِ تَوارِى الضَّبِّ خافَ من احتراشِ
وقد يعوجُّ فلا بدَّ من إصلاحه، خاصة إذا اندق في ضلوع الخصوم(49):
إذا اعْوَجَّ القنا في حامِليـهِ وجازَ إلى ضُلوعِهـمِ الضُّلوعا
أو إذا اندقّ في الخصم، فلابد من إصلاحه بعدأن نيل الثأر به(50)
ونالتْ ثأرَها الأكبادُ مِنـْهُ فَأَوْلَتـْهُ اندقاقـاً أو صُدُوعـا

أما تجهيز الخيل وإعدادها للقتال، فبرزت في غير صورة، وذلك حفاظا على قوتها في الشدائد، لتظل سنابِكُها قوية، تحوِّلُ الصخور القاسيات رمالا في طرادها(51):
إذا وَطِئَتْ بأيدِيها صخوراً يَفِئـْنَ لِـوَطْءِ أَرْجُلِها رِمـالا
ولابد من إنعال الخيل، وإن كان جسوم الخصوم طراقا لنعالها(52):
إذا أُنْعِلْنَ فـي آثـارِ قـومٍ وإن بَعُدوا جَعَلْنَهُمُ طِراقا

ولا تنحصرُ تجهيزاتُه بالانعال، بل يمتدُّ إلى تدريعه بتجافيف كالفارس نفسه، وهي وقاية-لا شك- له(53):
حَوِاليهِ بَحْرُ للتجافيِف مائِجٌ يَسيِرُ به طَوْدٌ من الخَيلِ أَيْهَمُ

وتتحوَّلُ دلالةُ الصيانِة إلى حماية خلفية للخليفة، لصيانةِ مهجته، بإرسال الأبطال لحمايته، إذ تعادل الأبطال السيوف والخليقة الغمد (54):
صانَ الخليفةُ بالأبطالِ مُهْجَتَهُ صيانةَ الذَّكرِ الهنديِّ بالخَلَلِ

والشّاعر يحِّول مَدْحَه أعراض ممدوحيه، صيانة يكسوها حللا أبهى اللباس، على محمل تشبيه تمثيلي(55):
إذا خَلَعْتُ على عِرْضٍ له حُلَلا وجدتُها مِنْهُ في أبهى من الحُلَل
(2)
وأَمّا تكديسُ الطّعام فبرزَ في"مطاميرَ" بالقرب من سُميساط في الثغور الجزرية فيقول(57):
وَدُوْنَ سُميساطَ المطاميرُ والمَلا وأوديـةٌ مجهولـةٌ وُهُجـُولُ

وأمّا إعلافُ الخيِل فَيتمُّ بِعزةٍ، إذ يُرفَعُ الحَبٌ على هام العدا بعلائقَ لها، كعادتها(58).
تَعَّودَ ألا يَقْضُمَ الحَـبَّ خَيْلُهُ إذا الهاُم لم تَرْفَعْ جَنوبَ العلائِق

ومن أعلافها عُشبُ الأعادي لسطوةِ الخيل، وقهِر الخصم، وقد كثرت الصوائفُ والشواتي، في عصر الشاعر، إذ يغيرون على الروم فيهما، ويُغار عليهم أيضاً، والخيل ترعى في ثغور "هنزيط" تصول بها وتجول(59):
وأصْبَحَتْ بقِـرى هنْزِيِطَ جائلةً تَرعى الظُّبى في خَصيبٍ نَبْتُهُ اللِّمَمُ

ويضافُ إلى ما ذُكِر حملهم المؤن والماء والإمدادات على الإبل المرافقة، من جهة، ولحمل الأساري السبايا من جهة أخرى(60):
فَكُلّما حَلَمَتْ عـذراءُ عِنْدَهُـمُ فإنّما حَلَمَتْ بآلسبي والإبِلِ
(3)
وأمّا الماء والتزوُّد به فحدَّد الشاعرُ بعضَ أمكنته، عندما قمعَ سيفُ الدولة فِتَنا داخلية، عصفت في عَمَله، وخالفت عليه، وقد أورد البَكريّ أماكنَ المياه في ترجمتهِ الراموسة (61)،إذ ذكر ما يُمْكِنُ أن يسمى اليومّ" مراحل" تقدم سيف الدولة في مسيره الحربي، يمكن ترسمها على النحو التالي: من الراموسة ضيعة على ميلين من حلبِ "إلى تل ماسح، إلى مياه الجيار، إلى مياهِ البديّة إلى ظاهرِ سَلَمْيِة إلى مياه حيران إلى مياه الغيثر إلى ماء الحباة ثم يجتاز بركايا الغوير ونهيا والبيضة والجفار وهي موقع الشاهد كما يقول النحاة، فالمواقع المائية الأخيرة ذكرها في شعره، ثم يأتي تدمرَ ثم عرض ثم الرصافة ثم ينتهي أخيراً بالرَّقة.
إنّها كما ترىِ ثلاثَ عشرة مرحلة، كان يَمُرُّ بها سيفُ الدولةِ في تحركاته الداخلية، لِقَمْعِ الفتنِ التي تَعْيَثُ في عَمَلِه، ونلحظ أن أكثرَ هذه المراحل أماكن تزويد مياه، مما يَدُلّ على تخطيطٍ إداري لسيف االدولة، بدءا بالراموسة وانتهاء بالرقة الفراتية، فالشاعر يذكر(62) :
وقد نَزَحَ الغُويرُ فلا غُوْيـرٌ ونهيـا والبُيَضْةَ ُوالجِفـارُ

كما أَنَّ سيفَ الدولةِ يتتّبع القبائلَ المتمردةَ عليه، عند مواقع المياه فيطلبها هناك(63):
طَلَبْتَهُم على الأمـواهِ حتّـى تَخـََوَّفَ أنْ تُفَتَّشهُ السحاب

هذه خطته الإدارية بتزويد الماء داخليا، فكيفَ كان يتزوُّد بالماء في حروبه للرومِ خارجيا؟
يُبدو أنَّ خُطَّةَ التزويد بالماء في حربه للروم، كانت تعتمدُ على مصادرَ مياه منها تَفرُّعُ الأنهارِ في منطقة الثغور، إذ كانت تَشْرَِبُ الخيلُ على شكائمها منها(64):
قَادَ الَمقانِبَ أقصى شُرْبِهـا نَهَلٌ على الشَّكيم وأدنى سَيْرِها سُرَعُ
ومنها البحيرات كبحيرة سمنين(65):
وَشُزَّبٌ أَحْمَتِ الشّعرى شَكائِمَها وَوَسَّمتْهـا علـى آنافها الَحكَمُ
حَتِّى وَرَدْنِ بِسِمْنِيـنٍ بُحيرتِـها تَنِشُّ بالمـاءِ في أشداقها اللُّجُمُ

ويتوافرِ الماءُ بكثرةِ حتى تسبحَ الخيلُ فيه، ولا بدَ إذن من التزِّود منه لتوافره(66):
تَجَفَّعلُ الموجُ عن لَبّـاتِ خَيْلِهم كمـا تَجَفَّلُ تَحْتَ الغارةِ النَّعَمُ
عَبَرْتِ تَقْدُمُهُمْ فيِه وفـي بَلَـدٍ سُكَّانـُهُ رِمَـمٌ مَسكونُها حُمَمُ
ويجدون الماءَ باردا أحيانا، فتنكمشُ لبرودته خُصى الفحول فتبدو كالخصيان(67):
يَقْمُُُصْنَ في مِثْلِ المُدى من باردٍ يَذَرُ الفحولَ وَهُنَّ كالِخصيان
(4)
ومن الشؤون الإدارية مناطقُ استراحةِ الجند وإسكانِ القادة، وقد برزتْ في الشّعر منطقةٌ واسعة لاستراحِةُ جند سيف الدولة، تمتُّد من نَهِرْ الفرات إلى دمِشقَ، دون أن يحدّد مواقَعها بِدقة، ربَّما حفظاً للأسرار العسكرية، أو لترهيبِ العدو بسعتها، وانتشارِ القوات العربية بكثرة، على مَحْمَلٍ من رفع الروح المعنوية، فها هو الجيشُ العربي يستريحُ فيها، بعد أن يغيرَ على الروم من واسط العراق(68):
يُغيرُ بها بين اللُّقان وواسـطٍ ويـُركِزُها بين الفُراتِ وجِلِّقِ

وفي منطقة الاستراحِة تُضْرَبُ الخياُم للقادة خاصة، إذ توقِعُها الريح أحيانا،ً لشدتها، فيفلسفُ وقوَعَها، طمعا بالرّحيل والفتوح(69):
أيقدَحُ فـي الخيمِـة العُذَّلُ وتشمَـلُ مـن دَهرهـا يَشْمَلُ
ولمـّا أمـرْتَ بِتطنيبِهـا أُشيــعَ بأنـّكَ لا تَـرْحَـلُ
فما اعتمدَ الله تقويضهـا ولكـنْ أشـارَ بمـا تَفْعـَلُ

وقد تقام الخيامُ في صحارى لا يتحَّملُ حَرَّها إلا أشدّاءُ الرجال(70):
مُخَيَّمُ الجمعِ بالبيداءِ يَصْهَرُه حَرُّ الهواجرِ في صُمٍّ مِنَ الفِتنِ

وَتُفْتَرَشُ البسُطُ في أماكن استراحة القادة، وعليها تيجانُ ملوك الروم، وصورهم، فَتُذُلُّ التيجاُن ساعتئذ وتعلوها العمائم الإسلامية(71):
وفي صورةِ الرومي ذي التاج ذِلَّةٌ لأِبلجَ لا تيجانَ إلا عَمائِمُهْ

وتتنوع الاستراحات طولاً وقصراً؛ فقد تكون طويله كالتي ذكرنا وقد تكون استراحة محارب قصيرة مُتوثبة، استراحة في ظلال خيول مطهمة تقيد الأوابد إذا طاردتها(72):
يَتَقَيَّلُوُنَ ظِلالَ كُـلِّ مُطَّهـَمٍ أَجَلِ الظّليم وَرِيْقَةِ السِّرحانِ

كما تنوّعتِ استراحةُ القادة، فشتانَ بين كثرةِ نومِ الخويدم، كافور الإخشيدى، الذي هرب الشاعر من عنده، مستغلا غفلته، وكان من قبل نائما في جهلة على قربة منه(73):
ونام الخويدمُ عـن ليَلِنـا وقد نامَ قبلُ عَمىً لا كَرى
وكانَ علـى قُرْبَـةِ بيننـا مهامـهُ من جَهْلِهِ والعمى

وبين قِلِة نوِم سيفِ الدولة، الذي انشغل بالروم، واقفا مع الله في جانب فقل رقاده(74):
وَأنْتَ مع اللهِ في جانبٍ قليـلُ الرُّقـادِ كثيرُ التعبْ

ويبدو أَنَّ قلةَ رُقادِ سيف الدولة، أرهقتِ الرومَ، وأسهرتْ قواتِهم الخلفيةَ لما لخطورتِها من أهمية(75):
شَنَنْتَ بها الغاراتِ حتى تركتَها وجفنُ الذي خَلْفَ الفرنجِة ساهِدُ

ولا ريبَ في أن تيقَّظَ سيفِ الدولة، أقضَّ مضاجعَ الروم، وافترشَ لجُنوبهم شوكَ القَتاد، وانتقل رعُبه إلى نفوسِهم في الليل، فرأوا منه رماحا في كلاهم؛ أحلاما في سهادهم، وهو ما يُسمّى اليوم بالصدمة النفسية "عصاب الحرب" (76)،كيف لا؟ ألم يصفه الروم بالمحارب الوحيِد الأعظم السامي الذي أعلنَ الحرَب المقدسةَ على النصرانية كما أسلفنا؟ إذن فلا غروى أن يكونُ بتيقَظهِ ابتعث الرعبَ النفسي للروم في يقظتهم ومناماتهم(77):
وَكَيْفَ يَبيتُ مضطجعاً جبَـانٌ فَـرَشْتَ لِجَنْبهِ شوكَ القتَاد
يرى في النومِ رُمْحَك في كُلاه ويخشى أن يُراه وفي السُّهاد

ولعلَّ تيقَظَ سيفِ الدولة يعادل تيقظ الشاعر نفسه، فالقلق مشترك وإن كان الواجب لكل منهما مختلفاً؛ ضيقاً واتساعا؛ ذلك أنّ الشاعر، لم يسترح في أرضِ نخلةَ، إذ كان فيها سجينا مضطهدا، وقد أعتاد أن يفترشَ صهوةَ حصانِه بلباسه الحربي(78):
مـا مُقامـي بـأرضِ نَخْلـَةَ إلا كَمُقـامِ المسيحِ بين اليهـودِ
مَفرشي صهوةُ الحِصان ولكـ(م) ن قميصي مسرودةٌ من حديد

وهو توَّاقٌ إلى ساحِ الحرب، متأَبِّ على استجمامِ شِعْبِ "بَوّان" يَرُدُّ على حِصانه في محمل التشخيص(79):
يقولُ بِشِعْـبٍ بَـوّانٍ حِصانـي أعـنْ هـذا يُسارُ إلى طعان
أبوكـم آدمٌ سَـنَّ المعاصـي وَعلَّمكـمْ مُفارقـةَ الجِنـان

كما تلفَّتَ إلى التيقّظ أثناءَ الإناخة للاستراحة(80):
فلمَّا أَنَخْنا رَكزْنا الرّمـا(م) حَ فـوق مكارِمنـا والعُلا

وهو يعادلُ به تيقّظَ ممدوحه في حِلَه وتِرحاله، في حَرْبِهِ واستراحته.
(5)
ومن الشؤون الإدارية المراسم التي استقبِل بها وفدُ الروم المفاوض للهدنة، بين ملك الروم وسيف الدولة، إذ برزَ في مشهد المراسمِ، رسولُ ملك الروم، لابسا درِعا، يَخْفِقُ قلبُهُ هلعا، وهو يمشي بين صفين متقابلين من جند سيف الدولة، بعد أن اصطفوا في مراسم عسكرية لاستقباله، فلما رآهم رسول الوفد، كاد أن يسقط رعبا، وهو يمشي باتجاه سيف الدولة الجالس على بساط الملك الرومي وعليه تاجه، يبدو أن سيف الدولة كان غنمه، وتعمّد أن يجلس على رأسه؛ إشارة إلى علو مكانته فوق الملك، فقسّم رسول الوفد نظرته بين سيف الدولة حينا وسيفه حينا كما يرسمه هذا المشهد سنة (342هـ)(81):
أتاكَ يكادُ الرأسُ يَجْحَدُ عُنْقَـهُ وتنقدُّ تَحْتَ الذُّعْرِ مِنْهُ المَفاصلُ
يُقوُمُ تقويمُ السّماطين ولَحْظُةُ سَمِيُّكَ، والخِـلُّ الذي لا يُزايلُ

وما أنْ يدنو رسولُ الملك من سيف الدولة، حتى يُحَييهً تحية عسكرية، إذ يُقبَّلُ الأرضَ بين يديه أولا ثم يقَّبلُ كُمُّه بعدها ثانيا، والكمُاة يقفون بخشوع وإجلال، مع أنّ طِرازَ السلام لدى سفراء الفرنجة في القرون الوسطى، رجوعُهم خُطوتين إلى الوراء، ووجوههم تلقاءَ الملوكِ، الذين يؤدّون التحيةُ إليهم، ثم يَمُسَونَ الأرضَ بأطرافِ قُبَّعاتهم ذواتِ الريش، ثم يلَّوحون بها فعلا مع الخطوتين الراجعتين، لكنَّ السفيرَ البيزنطي هذا قَّبلَ الأرضَ قبل أن يقبل كُمَّ سيـف الدولـة(82):
وَقَبَّلَ كُمَاً قَبّلَ التُرْبَ قَبْلـَهُ وَكـُلَّ كَمِيَّ واقفٌ مُتضائِلُ

ويعرضُ الشاعرُ صورةً مرعبة لوفد الروم، قبل لقائه سيف الدولة، ليهزمَهُ نفسياً، ذلك أنه يُسارُ بهِ في طُرِقٍ تناثرتْ فيها جُثَثُ الرّوم هنا وهناك، فَيُحَّدقُ الوفدُ برؤوس مفلّقة، وأشلاءٍ ممزَقة، فانكشفت أمامَه صورٌ حركيَة نفسية تقشعر لهولها الأبدان(83):
وَقَدْ سارَ في مَسراكَ مَنْهُ رسولهُ فما سـارَ إلاّ فَوْقَ هَامٍ مُفلَّقِ

وقَبْلَ وصولهِ إلى حَرس المراسم، تُسْتكَمَلُ المشاهدُ النفسية، فيرى الوفد لبوءةً قتلها رجال سيف الدولة، واستحيوا شبليها، لما للمشهد من رمز دال على القوة والسطوة على ملوك الغاب(84):
وأقبلتِ الرومُ تمشي إليك بَيْـنَ الليوثِ وأشبالِها
إذا رأتِ الأُسْدَ مسبـيّةً فأيـنَ تَفـِرُ بأطفالِها؟

ثم يستمرُّ في مشهدِه النفسي، إذ يُبرِزُ حرسَ المراسم في أوج تسلّحِهِ، تَلمعُ في أشعِة الشمس سيوفُه في صفّي مراسم، فيرتبكُ الوفُد لما يراه من رهبوت: مقدما وعرضا عسكريا، وهيبة عند مقابلته(85):
وأَقْيَلَ يمشي في البساطِ فما درى إلى البحرِ يمشي أم إلى البدر يرتقي؟!
والوفد يبحثُ شروطَ الهدنة بين الطرفين، ولا بَّد أن لها فوائدَ يراها الشاعر منها: تطيل أعمار الرماح عاما على الأكثر(86):
أخا الحربِ أَتْعَبْتَها فالهُ ساعةً ليُِغْمَدَ نَصْلٌ أو يُحَلَّ حِزام

ومن فوائد الهدنة عودةُ الجالين عن أراضيهم إليها، فتحتزُِ رقابهُم بسيف، فالهدنة على دخن(87):
متى عاودَ الجالون عاودْتَ أرضَهم وفيها رقابٌ للسيوفِ وهامُ
(6)
وأمّا القتلى كشأن إداري فصنفان؛ عربٌ وروم، والعرب نوعان؛ قتلى في ثوراتٍ داخلية، وقتلى في قتالِ الروم، أما قتلى العرب في الفتن الداخليِة وثوراتهم، فجماجمُ القتلى ملقاة في صحارى تأكلها السباع، فتثني على قاتليهم، بصورة تشخيصية متشفية، لأن جثثهم وجبات دسمة لها(88):
تَرَكْتَ جَماجِمَهُم في النّقا وما يتحصلْنَ للناخـل
وأنبتَّ فيهم ربيعَ السِّبـاعَ فأثنتْ بإحسانِك الشامل

ويقال مثله عن قتلى العرب، في حرب الروم ممن خالفوا أمر قائِدهم سيفِ الدولة، فقضوا بصورةٍ مخزية، يتشفّى الشاعر بقتلهم؛ ذلك لأنهم لم ينفذوا أمر سيف الدولة فنالوا جزاءَهم(89):
ونلحظ أمرين عند المتنبي في قَتْلى العرب سواء في فتن داخلية، أو في حربهِم للروم: أولهما؛ أنه لم يذكرْ خسائَر ممدوحِه وقتلاهم، وثانيا أن جثثَ العرب لم تدفن، بل تركت ملقاة في الفلاة، وفي كلتا الحالتين تشف بارز لمخالفتهم أمر قائدهم سيف الدولة(90):
قُل للدّمُسْتُق إِنَّ المسلمين لَكُم خانوا الأميرَ، فجازاهم بما صنعوا

كما أنه لم تظهر في شعره مراسمُ دفنِهم، ولا دفنِ الشهداء الذين لم يخالفوه في حملاته، ولعلَ ذلك يُعزى إلى إصراره على أن يستمر بنفخِه الحمية في الأحياء قادة وجنودا، حتى على جراحاتهِم وهزائمِهم المريرة مرات كثارا، فكأنه لا يريد أن يذكّرَهم بمصير رفاقهِم في السلاح، وهذا مما نستدل عليه من سيفياته التي عانى المسلمون هزائم كثيرة، على يد الروم؛ ذلك ما يعرفهُ كُلُّ من قرأَ حرب الثغور كَّرا وفرا بين المسلمين والروم، في عصر الشاعر، ويقال مِثْلُهُ عن عدم عَرْضهِ للسبايا العربيّات في ديار الروم، على كَثرةِ الأحداث الدالة، التي أدرجها المؤرخون من سنة (334-356هـ).
وأَمّا قتلى الروم فكثر- جنودا وقادة- إذ أبرز هاماتهِم مفلقة، فرآها وفدُ الروم، كما قتل ابن الدمستق في إحدى المعارك، وتركه أبوه صريعا في الميدان، ناجياً بروحه، مضحياً بولده قسطنطين(91):
نَجَوْتَ بإحدى مُهجتيك جريحةً وخلَّفْتَ إحدى مهجتيك تسيلُ
وقوله(92):
وما طَلَبَتْ زُرْقُ الأسنَّةِ غَيْرَهُ ولكنَّ قُسْطَنْطِينَ كان له الفدا



(7)
وأَمّا شأنُ الجرحى من مسلمين وروم، فأبرزَهم في مشاهدَ متنوعة، تارة يبدو الجرح على وجه المسلم وسيما، يتمنّى الشاعر نفسه جرحا مثله، ليزيَّن وجهَه عندئذ؛ كجرح محمد العلوي، الذي ناله بشرف في سُوح الجهاد(93):
يا ليتَ بـي ضَرْبَةً أتيحَ لـه كمـا أَتِيْحَتْ لـَهُ مُحمدُها
أثر فيها وفـي الحديد ومـا أثـر فـي وجهه مُهَنَّدُها
كما بدت الجراحُ تعادل خبراتِ الجند في سُوح الوغى، فتزداد الثقة به(94):
وَكُلّ فتى للحربِ فَوق جَبيِنِه من الضّرْب سَطَْرٌ بالأسنّةِ مُِعْجَمُ

أما جِراحُ الروم فعار عليهم، لأنهم جرحوا مدبرين لا مقبلين، كالدُّمستق الذي ولى على عقبيه جريحا، وتاركا ولده في شغار الموت:
(نجوت بإحدى مهجتيك جريحة)
ويقارن بين جريحِ مسلم، يرجعُ للقتال بخبرِة حرب؛ معتزَّاَ بها، وبين دُمستق جريحٍ، يعتزل السلاح ويترهبُن، منحطَم المعنوية، يتزيّا بالُمسوح لباسا، ويقبعُ في دبر منكفئا على نفسه، يمشي به العكاز لا العكس، خائرَ القوى، راضيا بحالته هذه، بعد أن كان يتعَّففُ على أحسنِ الدروع الدلاص، والشقر الجياد(95):
فأصبحَ يجتابُ المُسوحَ مخَافـةً وقد كانَ يَجتابُ الـدِّلاصَ المسرَّدا
ويمشي به العُكّازُ في الدَّير تائبا وما كان يرضى مَشْيَ أشقرَ أجردا
وما تابَ حتى غادرَ الكَرُّ وَجْهَهُ جريحا وخلّى جَفْنَهُ النَّقـْعُ أَرْمـَدا
(8)
ومن نتائجِ الحرب أسرى رجالا ونساء من عرب وروم، أما أسرى العرب من سيف الدولة فيعفو عنهم أحيانا، ويفك أوثقتهم؛ ولسمو خصال سيف الدولة يترفع عن سلبهم(96):
فتى لا تَسْلُبُ القتلـى يـداهُ وَيْسُلبُ عفوُه الأسـرى الوَثاقا
وبعضهم يرتعِبُ في أسره فيبولُ على فخذيه، بعد تبلل ثوبه دما(97):
فغدا أسيرا قد بِلَلْـتَ ثيابَـهُ بدم وبـل ببولهِ الأفخاذا
ومن الأسرى من تضرب رأسهٌ على عَجَل(98):
أَعْجَلْتَ أَلسْنُهَمُ بِضَرْبِ رِقابِهم عن قولهم لا فارسٌ إلاّ ذا
وبعضهم يُمَدُّ النطع تحته لتحتزَّ رأسُه(99):
إذا ضربَ الأميرُ رِقابَ قَوْمٍ فما لكرامةٍ مَدّ النُّطوعا

وقد أجازَ الإسلامُ قَتْلَ الأسير، لأسبابٍ منها؛ حالةُ اليأس منه، وعدمُ الانتفاع به، أو تخشٍ من إفشاء أسرار آسريه. وكذلك للمعاملة بالمثل(100)، فقد كان الرومُ يقتلون في أحايينَ كثيرةٍ أسرى المسلمين(101):
والأسرى العرب عند الروم نوعان، منهم من يُضحّي لأجله ويرثي، كأبي العشائر الذي مات في مصرَ، بعد قتال مضى فرثاه(102):
كُنّا نَظـُنّ ديارَه مملـوءَةً ذهباً، فماتَ وَكُلُّ دارٍ بَلْقَعُ

ومنهم خسِاسٌ ضعاِفٌ، لم يطيعوا أمرَ قائدهم، واختفوا بين جثث الروم فأسروا، فَخَلّص الله بهم جَيْشَ سيـفِ الدولة من أدرانه، فتشفّى بأسِرهـم وقتلهـم(103):
وجدتموهم نِيامـا فـي دِمائِكـم كـأنَّ قتلاكم إياهـم فجعـوا
لا تَحَسبُوا مَن أَسَرْتُمْ كان ذا رمق فليـس يأكل إلا الميّتَ الضَّبُعُ
وإنمّا عَرَّضَ الله الجنـودَ بكـُم لكي يكونوا بلا فَسْلٍ إذا رجعوا

أما السبايا فنوعان عربيَّةٌ وروميَّة، أما السبيات العربيّات، فيطلقن معززّات إلى أهلهن، دونما مَساس بِكراماتهن؛ على ما لقينه من ذعر ورهق وسقوط خُمُرهن(102):
وأرهقتِ العـذارى مُرْدَفاتٍ وأوطئـِت الأصيبيةُ الصِّـغارُ

وقوله(103):
فَعُدْنَ كما أُخِذْنَُ مكرّمـاتِ عَليـِهِنَّ القَلائـدُ والمَـلابُ

ويعزي ذلك للنسب النزاري المشترك، وحق الجوار، وإكرام العربي للمرأة العربية(104):
لهم حقٌّ بِشِرْكِكَ فـي نِزارٍ وأدنى الشَّرْكِ في أصلٍ جوِارُ

أما السّبايا العربياتُ عندَ الروم، فلم أقرأْ لهن ذكرا عنده، ولا أدري أكان يخجلُ من ذكرهن؟ أم أنه يَعْرِضُ صَفْحا عَنْهُنّ حتى لا يثيرَ في النفوس العربية ضعفا وهواناً، وهو الداعي في شعره إلى نفخة الحرب وصيحاتِها في ميدان القتال؟
أما السَّبايا الرُّومياتُ فَعَرَضَ منهن مشاهدَ عِدَّة، فمنهن من يحتمين بجمالهن، فلا تضرب أعناقهن لأجِلِه(105):
فلم يبق إلا من حَماها من الظُّبا لمى شفتيها والثُّدِيُّ النواهدُ
ومنهن كَواسُد عند العرب؛ والبطارقُة يبكون بحسرة عليهن ليلا (106):
تُبَكِّى عليهنّ البطاريقُ في الدُّجى وَهـُنَّ لدينا مقلياتٌ كَواسِدُ

ومنهن أسيراتُ خوف، وإن لَمْ يُسبَيْنَ بعدُ، إذْ كلما نضجت فتاةٌ رومِيةٌ، حَلَمَتْ بالسبي العربي، وهي محمولة على الجمال العربية؛ تعاني في ما يسمى بـ "عُصاب الحرب"(107):
فَكُلَّما حَلَمَتْ عَذْراءُ عِنْدَهُمُ فإنّما حَلَمَتْ بالسّبي والجَمَلِ
وَيُبَرزُ الشأنُ الإداريّ هنا، إذ يُحْمَلْنَ في قواربَ مع بقيِة الأسرى سبايا(108):
دُهُمٌ فَوارِسُها، رُكَّابُ أْبطُنِها مَكـْدودةٌ وبقومٍ لا بها الألِم
تَلْقى بِهِمْ زيدَ التيارِ مُقْرِبـَةٌ على جحاِفلها مِنْ نَضْحِهِ رَثَمُ




(9)
ومن الشؤون الإدارية الطبابة، وأبرزُها الفَصْدُ بالمِبضع، شأنُ من فَصَدَ بدَر بن عمار، بمبضع فوق حقه فأضرَّهُ به ؛ ويبدو أنَّ الفَصْدَ كانَ في يدهِ لإزالة دمٍ فاسد، لكن الفَصْدَ لم يُؤثّر على جود يده(109):
يَشْقُّ في عِرْقِها الفِصادُ ولا يَشُقُّ في عِرْقِ جُوْدهِا العَذَلُ

وأشاد بفصدِ بقراط في الطّبَ في تشبيهه كَلْبَ صيد مدرباً، على فَصْدِ صَيْدِه من أكحله(110):
كأنّه من سعِة في هوجـل كأنـَّهُ مـن علمـه بالمقْتـلَ
عَلَّمَ بقراط فِصاد الأكحلِ
والشاعر نفسه أصيب بحمى في مصر في سنة (248)هـ، شَخَّصَ أعراضَها طبيب وعزاها- خطأ- إلى طعام وشراب كان تناولهما(111):
يَقولُ لي الطبيبُ أَكَلْتَ شَِيئا وداؤكَ في شرابِك والطّعام
ولكن الشاعر طموح إلى ميدان الحرب، وقد طال جمامه، فأضر به ذلك(112):
وما في طِبْه أَنّـي جَـوادٌ أضرََّ بِجِسْمِهِ طُوْلُ الجِمامِ
تَعَوَّدَ أنْ يُغيِّرَ في السَّرايا وَيْدخـُلَ من قِتامٍ في قتامِ

ومُلَخُّص القول، إن الشؤونَ الإدارية، والاتصالات في الحرب عند المتنبي، ظاهرةٌ لافتةٌ أدارَها في شعرهِ، لعلها تُبْرِزُ إرهاصاً لمصطلح "Logistics" الذي يتركَّزُ أساسا في مسألة إدارةِ شؤون الجند، وصيانةِ أسلحتهم، وتأمينِ عسكرهم، على أسس منظّمة؛ تمكنوا خلالها من إدارة عملياتِهم العسكرية، وَوَقفوا في وجهِ الروم ستينَ سنة، في عهد سيف الدولة الحمداني الذي أطراه المتنبي، وصوَّرَ وسائلَ التزويد وشؤونَ الإدارةِ في عهده عامة، مما حدا بمؤرخي الفرنجة وقادتِهم أن يُسمّوهُ البطلَ الوحيدَ الواقفَ في وجه النصرانية آنذاك.

رد مع اقتباس