فحصل من ذلك أن أصل الأمراض المزاجية هي التابعة
لأقوى كيفيات الأخلاط التي هي الحرارة والبرودة ، فجاء
كلام النبوة في أصل معالجة الأمراض التي هي الحارة
والباردة على طريق التمثيل ، فإن كان المرض حاراً ،
عالجناه بإخراج الدم ، بالفصد كان أو بالحجامة ، لأن في
ذلك استفراغاً للمادة ، وتبريداً للمزاج . وإن كان بارداً
عالجناه بالتسخين ، وذلك موجود في العسل ، فإن كان
يحتاج مع ذلك إلى استفراغ المادة الباردة ، فالعسل
أيضاً يفعل في ذلك لما فيه من الإنضاج ، والتقطيع ،
والتلطيف، والجلاء، والتليين ، فيحصل بذلك
استفراغ تلك المادة برفق وأمن من نكاية المسهلات القوية .
وأما الكي : فلأن كل واحد من الأمراض المادية ،
إما أن يكون حاداً فيكون سريع الإفضاء لأحد الطرفين ،
فلا يحتاج إليه فيه ، وإما أن يكون مزمناً ، وأفضل علاجه
بعد الإستفراغ الكي في الأعضاء التي يجوز فيها الكي ،
لأنه لا يكون مزمناً إلا عن مادة باردة غليظة قد رسخت
في العضو ، وأفسدت مزاجه ، وأحالت جميع ما يصل إليه
إلى مشابهة جوهرها ، فيشتعل في ذلك العضو، فيستخرج بالكي
تلك المادة من ذلك المكان الذي هو فيه
بإفناء الجزء الناري الموجود بالكي لتلك المادة .
فتعلمنا بهذا الحديث الشريف أخذ معالجة الأمراض المادية
جميعها ، كما استنبطنا معالجة الأمراض الساذجة من قوله
صلى الله عليه وسلم : " إن شدة الحمى
من فيح جهنم ، فأبردوها بالماء " .
***
وأما الحجامة ، ففي سنن ابن ماجه من حديث جبارة بن
المغلس ، - وهو ضعيف - عن كثير بن سليم ، قال : سمعت
أنس بن مالك يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" ما مررت ليلة أسري بي بملإ إلا قالوا :
يا محمد ! مر أمتك بالحجامة " .
وروى الترمذي في جامعه من حديث ابن عباس هذا
الحديث : وقال فيه : "عليك بالحجامة يا محمد " .
وفي الصحيحين : من حديث طاووس ، عن ابن عباس ،
أن النبي صلى الله عليه وسلم : " احتجم وأعطى الحجام أجره " .
وفي الصحيحين أيضاً ، عن حميد الطويل ، عن أنس ،
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجمه أبو طيبة ، فأمر
له بصاعين من طعام ، وكلم مواليه ، فخففوا
عنه من ضريبته ، وقال : " خير ما تداويتم به الحجامة " .
وفي جامع الترمذي عن عباد بن منصور ، قال : سمعت
عكرمة يقول : كان لابن عباس غلمة ثلاثة حجامون ،
فكان اثنان يغلان عليه ، وعلى أهله ، وواحد لحجمه ،
وحجم أهله . قال : وقال ابن عباس : قال نبي الله صلى
الله عليه وسلم : " نعم العبد الحجام يذهب بالدم ، ويخف
الصلب ، ويجلو البصر " ، وقال : إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم حيث عرج به ، ما مر على ملإ من الملائكه
إلا قالوا : " عليك بالحجامة " ، وقال : " إن خير ما
تحتجمون فيه يوم سبع عشرة ، ويوم تسع عشرة ،
ويوم إحدى وعشرين " ، وقال : " إن خير ما تداويتم
به السعوط واللدود والحجامة والمشي " ، وإن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لد فقال: " من لدني ؟ فكلهم أمسكوا ،
فقال : لا يبقى أحد في البيت إلا لد إلا العباس
" . قال : هذا حديث غريب ، ورواه ابن ماجه .