أحدهما : أن ذلك أنموذج ورقيقة اشتقت من جهنم ليستدل بها
العباد عليها ، ويعتبروا بها ، ثم إن الله سبحانه قدر ظهورها
بأسباب تقتضيها ، كما أن الروح والفرح و السرور واللذة
من نعيم الجنة أظهرها الله في هذه الدار
عبرة ودلالة ، وقدر ظهورها بأسباب توجبها .
والثاني : أن يكون المراد التشبيه ، فشبه شدة الحمى ولهبها
بفيح جهنم ، وشبه شدة الحر به أيضاً تنبيهاً للنفوس على شدة
عذاب النار ، وأن هذه الحرارة العظيمة مشبهة
بفيحها ، وهو ما يصيب من قرب منها من حرها .
وقوله : فأبردوها ، روي بوجهين : بقطع الهمزة وفتحها ،
رباعي : من أبرد الشئ : إذا صيره بارداً ،
مثل أسخنه : إذا صيره سخناً .
والثاني : بهمزة الوصل مضمومة من برد الشئ يبرده ،
وهو أفصح لغة واستعمالاً ، والرباعي لغة رديئة عندهم قال :
إذا وجدت لهيب الحب في كبدي أقبلت نحو سقاء القوم أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره فمن لنار علي الأحشاء تتقد
وقوله : بالماء ، فيه قولان . أحدهما : أنه كل ماء وهو الصحيح .
والثاني : أنه ماء زمزم ، واحتج أصحاب هذا القول بما رواه
البخاري في صحيحه عن أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي ،
قال : كنت أجالس ابن عباس بمكة ، فأخذتني الحمى ، فقال :
أبردها عنك بماء زمزم ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" إن الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء ، أو قال: بماء زمزم
" . وراوي هذا قد شك فيه ، ولو جزم به لكان أمراً لأهل مكة
بماء زمزم ، إذ هو متيسر عندهم ، ولغيرهم بما عندهم من الماء .
ثم اختلف من قال : إنه على عمومه ، هل المراد به الصدقة
بالماء ، أو استعماله ؟ على قولين . والصحيح أنه استعمال ،
وأظن أن الذي حمل من قال : المراد الصدقة به أنه أشكل عليه
استعمال الماء البارد في الحمى ، ولم يفهم وجهه مع أن لقوله
وجهاً حسناً ، وهو أن الجزاء من جنس العمل ، فكما أخمد
لهيب العطش عن الظمآن بالماء البارد ، أخمد الله لهيب الحمى
عنه جزاء وفاقاً ، ولكن هذا يؤخذ من فقه
الحديث وإشارته ، وأما المراد به فاستعماله .
وقد ذكر أبو نعيم وغيره من حديث أنس يرفعه :
" إذا حم أحدكم ، فليرش عليه الماء البارد ثلاث ليال من السحر " .
وفي سنن ابن ماجه عن أبي هريرة يرفعه :
" الحمى كير من كير جهنم ، فنحوها عنكم بالماء البارد " .
وفي المسند وغيره ، من حديث الحسن ، عن سمرة
يرفعه : " الحمى قطعة من النار ، فأبردوها عنكم بالماء البارد "
، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حم دعا
بقربة من ماء ، فأفرغها على رأسه فاغتسل .
وفي السنن : من حديث أبي هريرة قال : ذكرت الحمى عند
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسبها رجل ، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : " لا تسبها فإنها
تنفي الذنوب ، كما تنفي النار خبث الحديد " .
لما كانت الحمى يتبعها حمية عن الأغذية الرديئة ، وتناول
الأغذية والأدوية النافعة ، وفي ذلك إعانة على تنقية البدن ،
ونفي أخباثه وفضوله ، وتصفيته من مواده الرديئة ،
وتفعل فيه كما تفعل النار في الحديد في نفي خبثه ،
وتصفية جوهره ، كانت أشبه الأشياء بنار الكير التي
تصفي جوهر الحديد ، وهذا القدر هو المعلوم عند أطباء الأبدان .