وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أموراً كثيرة ، ورأيناها تفعل
ما لا تفعل الأدوية الحسية ، بل تصير الأدوية الحسية عندها
بمنزلة أدوية الطرقية عند الأطباء ، وهذا جار على قانون
الحكمة الإلهية ليس خارجاً عنها ، ولكن الأسباب متنوعة
فإن القلب متى اتصل برب العالمين ، وخالق الداء والدواء ،
ومدبر الطبيعة ومصرفها على ما يشاء كانت له أدوية أخرى
غير الأدوية التي يعانيها القلب البعيد منه المعرض عنه ،
وقد علم أن الأرواح متى قويت ، وقويت النفس والطبيعة
تعاونا على دفع الداء وقهره ، فكيف ينكر لمن قويت طبيعته
ونفسه ، وفرحت بقربها من بارئها ، وأنسها به ، وحبها له ،
وتنعمها بذكره ، وانصراف قواها كلها إليه ، وجمعها عليه ،
واستعانتها به ، وتوكلها عليه ، أن يكون ذلك لها من أكبر الأدوية ،
وأن توجب لها هذه القوة دفع الألم بالكلية ، ولا ينكر هذا إلا أجهل
الناس ، وأغلظهم حجاباً ، وأكثفهم نفساً ، وأبعدهم عن الله وعن
حقيقة الإنسانية ، وسنذكر إن شاء الله السبب الذي به أزالت قراءة
الفاتحة داء اللدغة عن اللديغ التي رقي بها ، فقام حتى كأن ما به قلبة .
فهذان نوعان من الطب النبوي ، نحن بحول الله نتكلم عليهما
بحسب الجهد والطاقة ، ومبلغ علومنا القاصرة ، ومعارفنا المتلاشية جداً ،
وبضاعتنا المزجاة ، ولكنا نستوهب من بيده الخير كله ، ونستمد
من فضله ، فإنه العزيز الوهاب .
روى مسلم في صحيحه : من حديث أبى ال**ير ، عن جابر بن عبد الله ،
عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " لكل داء دواء ، فإذا
أصيب دواء الداء ، برأ بإذن الله عز وجل " .
وفي الصحيحين : عن عطاء ، عن أبي هريرة قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : " ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء " .
وفي مسند الإمام أحمد : من حديث زياد بن علاقة ، عن أسامة بن
شريك ، قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم ، وجاءت الأعراب ،
فقالوا : يا رسول الله ! أنتداوى ؟ فقال : " نعم يا عباد الله تداووا ،
فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد ،
قالوا : ما هو ؟ قال : الهرم " .
وفي لفظ : " إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء ، علمه من
علمه وجهله من جهله " .
وفي المسند : من حديث ابن مسعود يرفعه :
" إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء ، علمه
من علمه ، وجهله من جهله " وفي المسند و السنن :
عن أبي خزامة ، قال : قلت : يا رسول الله ! أرأيت رقى نسترقيها ،
ودواء نتداوى به ، وتقاة نتقيها ، هل ترد من قدر الله
شيئاً ؟ فقال : " هي من قدر الله " .
فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات ،
وإبطال قول من أنكرها ، ويجوز أن يكون قوله : " لكل داء دواء " ،
على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة ، والأدواء التي لا يمكن
لطبيب أن يبرئها ، ويكون الله عز وجل قد جعل لها أدوية تبرئها ،
ولكن طوى علمها عن البشر ، ولم يجعل لهم إليه سبيلاً ، لأنه لا
علم للخلق إلا ما علمهم الله ، ولهذا علق النبي صلى الله عليه وسلم
الشفاء على مصادفة الدواء للداء ، فإنه لا شئ من المخلوقات إلا
له ضد ، وكل داء له ضد من الدواء يعالج بضده ، فعلق
النبي صلى الله عليه وسلم البرء بموافقة الداء للدواء ،
وهذا قدر زائد على مجرد وجوده ، فإن الدواء متى جاوز درجة
الداء في الكيفية، أو زاد في الكمية على ما ينبغي ، نقله إلى داء
آخر ، ومتى قصر عنها لم يف بمقاومته ، وكان العلاج قاصراً ،
ومتى لم يقع المداوي على الدواء ، أو لم يقع الدواء على الداء ،
لم يحصل الشفاء ، ومتى لم يكن الزمان صالحاً لذلك الدواء ، لم ينفع ،
ومتى كان البدن غير قابل له ، أو القوة عاجزة عن حمله ،
أو ثم مانع يمنع من تأثيره ، لم يحصل البرء لعدم المصادفة ،
ومتى تمت المصادفة حصل البرء بإذن الله ولا بد ، وهذا
أحسن المحملين في الحديث .