الاهتمام بالقلوب مطلب رباني ومقصود شرعي
سلامة القلب وطهارته وصفاؤه ونقاوته، مطلب رباني، ومقصود شرعي، وكلما طهر قلب العبد كان من أفضل الناس.. فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الناس أفضل؟ قال: (كل مخموم القلب، صدوق اللسان)، قالوا: صدوق اللسان نعرفه؛ فما مخموم القلب؟ قال: (هو التقي، النقي، لا إثم فيه، ولا بغي، ولا غل، ولا حسد)[صححه الألباني].
إن الإسلام لم يهتم بشيء في الإنسان بقدر ما اهتم بقلبه، فهذه المضغة هي بيت الإيمان وموقع الصدق ومحل الإخلاص، والقلب واللسان أعظم ما في الإنسان وأهم ما فيه، وكل أعمال الإيمان من خوف ورجاء، وتوكل وإنابة، وإخبات ويقين، وصدق ومحبة إنما محلها القلب. وقبول الأعمال وتفاضلها إنما هو متوقف على ما في القلب من صدق وإخلاص ومعاني الإيمان، فمتى فرغ القلب منها فعند ذلك، لا يفيد عمل، ولا تقبل طاعة، ولا ينتفع عبد بعبادة. ومن هنا كان القلب أعظم مضغة في الإنسان، متى صلحت صلح الجسد كله، ومتى فسدت فسد الجسد كله: ففي حديث النعمان بن بشير المتفق عليه قال صلى الله عليه وسلم: (أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ). قال أبو هريرة رضي الله عنه: "القلب مَلِكٌ والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده". قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "القلب هو الأصل، فإذا كان فيه معرفة وإرادة، سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب)". ويقول ابن رجب رحمه الله: (... الأصل في التقوى والفجور هو القلب، فإذا بر القلب واتقى، برت الجوارح، وإذا فجر القلب فجرت الجوارح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (التقوى ها هنا.. وأشار إلى صدره)". [انظر جامع العلوم والحكم]. والقلب هو محطُّ نظرِ الرب سبحانه، كما قال صلوات الله وسلامه عليه: (إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ)(رواه مسلم). وفي سورة الحج قال سبحانه: {لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]. ويوم القيامة لا يدخل الجنة إلا صاحب القلب المنيب، ولا ينجو إلا صاحب القلب السليم، قال جل في علاه: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ . هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ . مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:31:33]. وقال على لسان خليله إبراهيم: {ولا تخزني يوم يبعثون * يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء:87-89]. والقلب السليم هو القلب الذي سلم توحيده لله من كل شرك، وسلم من كل شبهة تعارض الأمر، وكل شهوة تخالف النهي، وكل هوى يخالف مراد الله تعالى. ولهذا يسعى الشيطان لإفساد هذا القلب، وتفريغه مما ينفعه ويسره، وشغله بما يؤذيه ويضره، ويبذل وسعه لإعطابه وإبعاده عن السلامة التي لا ينجو إلا بها؛ ولهذا وجب صيانته منه ومن نزغاته، والانتباه لسلامة القلب ونقاوته لتتم له السلامة يوم الدين. القلوب تتقلب والقلوب شديدة التقلب، عظيمة التغير، كثيرة التفلت، فهي تتقلب كريشة في فلاة، تقلبها الريح ظهرا لبطن. قال صلى الله عليه وسلم: (لقلب ابن آدم أسرع تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا)[صحيح الجامع]. وقد جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إِنَّ قُلُوبَ بَنِى آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ)[رواه مسلم]. ولهذا كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) (رواه أحمد). فما أحوجنا إلى الإكثار من هذا الدعاء في هذه الأيام التي كثرت فيها الفتن، وعظمت فيها الابتلاءات وأسباب العطب، والمهلكات التي يصبح الإنسان فيها كافرا ويمسي مؤمنا، ويصبح مؤمنا ويمسي كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل؟. وجوب المراقبة والمحاسبة فإذا علم العبد ذلك وجب عليه مراقبة قلبه، ومداومة النظر فيما أعد للقاء ربه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[الحشر]. وهذه المراقبة لطلب استقامة القلب لا تكون إلا بدوام المحاسبة، وهذا هو الفارق بين أهل الغفلة وأهل اليقظة، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتزينوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}، وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا". فاللهم ارزقنا قلوبا تقية، وأفئدة نقية، ونفوسا زكية، واجعلنا من أحب خلقك إليك، وأقربهم منزلة لديك، ولا تخزنا يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.. آمين. |
بارك الله فيك اخي على الموضوع
|
الساعة الآن 05:02 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions Inc.